موقع الشاعر تمام تلاوي __ منزل مزدحم بالغائبين










تمام التلاوي




منزل مزدحم بالغائبين




شِـعر



الجائزة الأولى
مسابقات سعاد الصباح للإبداع الفكري والأدبي
عام 2000م


جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع- الكويت
طبع في الكويت 2001م


* * * * *

إلى مَنَــال
بكاملِ سُمْرتِها..
عفواً,
أقصد إلى غيابِها
بكاملِ عتمتِهِ..
نعمْ
إلى غيابِها,
حتّى تعود,
فإنْ عادتْ
فإليها...


* * * * *


أرجــاؤه


I- المدخل
1- هذا أنا.. هذا أنا
2- التداعيات الجماعية لأصدقاء العزلة
3- الأرض الموصدة
4- تنهدات فجرية
5- شمال دمشق.. على البحر

II- الحديقة
1- آدم
2- كم كذبتَ علينا

III- عند النافذة
1- خريف لأشجار كارولينا
2- وداعاً لنا


IV- غرفة للحلم
1- من آخر النسيان عادت
2- قصة في مشهدين
3- تركتُ حياتي
4- قصيدة الليل

V- غرفة للكتابة
1- عقارب ساعتي
2- وحيد
3- البشارة
4- إلى آخر البحر
5- جدار الدمع
6- رسائل يومية
7- على حافة الجسر
8- الصعود

VI- الردهة بمقاعدها الخالية
1- الرباعيات الست كما وردت في معجم الورد
I- آروم
II- أنتريوم
III- أوركيدا
IV- إيريس
V- توليب
VI- ليليوم
2- أراكِ أراكِ ولو من بعيد
3- ويشير لامرأة بعيدة
4- غيابك شيخ كبير

VII- الباب
1- بابٌ واقف بانتظار امرأة
2- اعبري الجسر ثم اكسريه
3- بانتظار الوقت

VIII- منزل مزدحم بالغائبين

* * *

















I- المدخـل

هذا أنا.. هذا أنا



وعلى النوافذِ أنْ تظَلَّ الآنَ مُغْلَقةً على حُلُمي
فلِي في دفتري المفتوحِ فاتحةُ انكساري
لمْ يعُدْ في العمرِ متَّسَعٌ لعُمري
لمْ يعُدْ في القلبِ منْ أفُقٍ لراياتِ انتصاري
هذه الشرُفاتُ لا تُصغي إلى ناياتِ حُبِّي
هذه الطرُقاتُ خاويةٌ
وهذا الليلُ سِكِّينٌ على عنُقِ انتظاري
الذكرياتُ تحُطُّ متعبةً على أشجارِ صمتي
والمدينةُ خبَّأتْ فتياتِها عنّي طويلاً
والغريبُ أنا, نُفِيتُ وراءَ أسوارِ القصيدةِ حينَ أعلنتُ انهياري..
آهِ أيّتُها القطاراتُ, المواعيدُ, البحارُ, الذكريات,
فنادقُ الغادات, ساحاتُ البريد, مطاعمُ الفقراء, أضواءُ الشوارعِ, أغنياتُ الليل, مصطبةُ التسوّل..

آهِ أيّتُها المدينةُ
حزنُكِ البحريُّ لا يرسو على شطٍّ سواي
ووجهُكِ الدهريُّ غطّى صورةَ الأهلِ القديمةَ بالغبارِ..
وليتَ أمّي لمْ تعانقْني طويلاً عند بابِ الدارِ
لمْ تتركْ روائِحَها على قُمصانِ ذاكرتي
ولمْ تَحْشُ بجيبي حَفْنةَ اللوزِ الأخيرةَ
ليتَ أمّي لمْ تُقبِّلْني كثيراً عندما الْتَفَّتْ ضفيرتُها على عنُقي كمشنقةٍ
وحينُ تطايَرَتْ صلواتُها سرباً يظلِّلُ رحلتي
يا ليتَها ما طاوعَتْني حينَ أفرغْتُ الطفولةَ منْ خزانةِ غرفتي
أو حين خزَّنْتُ الأماني في فراغِ حقيبتي..

هذا أنا من بعدِ أمّي والمدينةِ
عاشقٌ ينْسَلُّ خيْطاً تلوَ خيْطٍ منْ ثيابِ العاشقاتْ
لم يبقَ لي في نهدِ أنثايَ العنيدةِ مذبَحٌ للإعترافِ بدمعتي
لم يبقَ لي ما بينَ فَخْذَيْها مدافِئُ كنتُ أوقدُها شتاءً آنَ تعصفُ شهوتي
لم يبقَ لي ما كانَ لي
طـالتْ شـوارعُ خيبتي
وعلى النوافذِ أنْ تظلَّ الآنَ مغلقةً على حلمي
فلِي في دفتري المفتوحِ فاتحةُ انكساري
هذا أنا من بعدِ أمّي والمدينةِ
عاشقٌ يرتادُ حاناتِ الهزيمةِ
أبصرُ القُبَلَ القديمةَ فوقَ وجهي في زجاجِ الطاولات
وأحتفي بملامحي مِنْ أوّلِ امرأةٍ بمحبرتي لآخرِ خمرتي
وأجرُّ عندَ الفجرِ قامتيَ الطويلةَ صوبَ هذا البحرِ
أُلْقيها على زبَدِ الأغاني: عمْتِ صُبحاً يا مدينةُ, عمْتِ صُبحاً,
بينما حوريَّتي تنأى, وتنأى..
والمدينةُ
لا ترى في الحبّ
إلا جُثَّتي..


1998/8



* * *




التداعياتُ الجماعيّة لأصدقاءِ العزلة



على عتْبةِ البابِ يسقطُ عنَّا الكلامُ الأخير..
ونحملُ ما نستطيعُ من الذكريات, ومن صورِ الأهلِ والأخوات اللواتي سيذهبنَ عمّا زفافٍ إلى عمرِهِنّ,
ونحملُ قنديلَ أيّامِنا تاركينَ رَذاذَ الطفولةِ يهمي على معطفِ الليل,
يهمي
ويهمي..


على عتْبةِ البابِ يُؤلِمُنَا الياسمينُ: متى سوفَ ترجعُ؟
تهرَمُ أعينُنا فجأةً, ننحني كي نُقبِّلَ في بتَلاتِ اليدينِ عروقَ الحليبِ, وننسى الكلامَ الذي سوفَ نذكرُهُ في مَسَاءاتِ عُزلتِنا المُستفيقةِ: أمّي لماذا احتملتِ عناديَ عشرينَ عاماً؟..

على عتبةِ البابِ يبتعدُ الصوتُ
يلْتفُّ حولَ خُطانا الصباح
وندخلُ سهواً شوارعَ هذي الحياةِ التي توصِلُ الجائعينَ إلى مَقعدٍ خلفَ مائدةٍ للحياةِ أُعِدَّتْ على شرَفِ الله,
لكنّنا حينَ يندلِقُ العمرُ
نتركُ قمصانَ أحلامِنا كي تجِفَّ على مهَلٍ فوقَ أسطحِ خيباتِنا..

-يا منال
-نعمْ
-طعمُ ثدييكِ أصبحَ مُرّاً
-لأنّكَ قبَّلْتَ غيري
-لأنكِ لم ترحميني
-كذبتَ كثيراً عليّ



..على عتْبةِ البابِ كنتُ أشارِكُ مَنْ تبِعوكِ تراتيلَهمْ في الفضاءات: لبّيكِ.. لبّيكِ.. ثمّ تقدمتُهُمْ رافعاً رايَةَ القلبِ, ثمَّ وصلتُ وحيداً, وحيداً سجدتُ.. ولم ترفعيني.
فعُدتُ إلى عتْبةِ الجُرح,
كنتُ انتظرتُكِ,
أعددتُ بعضَ الشموعِ, النبيذِ, الورودِ, السجائرِ, أعددتُ قلبي وبعضَ الظلالِ وبعضَ الطيور..
ولكنّني
بعدَ صمتِ صريرِ سريرِكِ
أدركتُ أنّي أنا ذكَرُ العنكبوتْ..


على عتْبةِ البابِ تصفَرُّ أسماؤنا,
وتصيرُ المشاهدُ أبعدَ عمقاً وأقربَ للذاكرةْ.
نصيرُ أقلَّ انتصاراً وأكثرَ قسوةْ
ونصبحُ أكثرَ خوفاً من الحبِّ بعدَ التي عانَقَتْنا لأوّلِ منفى.
لمنفايَ طعمُ ثمارِكِ يا سِدرةَ المنتهى..
سأقرأ في الليلِ سُورةَ أهلي, وأدعو الإلهَ القديرَ على كلِّ شيءٍ عدا يأسِنا.
كمْ أحبُّ الذُّبابَ, وأكرهُ ما يكتبُ الشعراءْ
وأحبُّ حياتيَ
ليس لأني تعودتُها
بل لأني تعودتُ حبَّ الحياةْ.
لنا ما يلي:
ورودٌ مجفَّفَةٌ في رسائلِ عشاقِنا,
حانةٌ كي نبلِّلَ طاولةَ الليلِ بالذكريات,
دفاترُ نملؤها بالحنينِ إلى بلدٍ صارَ أبعدَ ممّا مشيْنَا,
جدارٌ نعلِّقُ في صدرِهِ جمرةً للتأمُّلِ,
مدفأةٌ نتجمَّعُ حولَ رؤى نارِها ونسخِّنُ أرغفَةَ الشعرِ آنَ نجوعُ إلى مَنْ نحِبّ,
لنا قهوةٌ للكلام
ونافذةٌ للشتاء..
لنا ما سبق.



لذا لنْ نطيلَ الوقوفَ على عتْبةِ الباب
سوفَ نطاردُ أعمارَنا للنهايةِ
في كلِّ بَرٍّ لنا منزلٌ في القصيدةِ
وامرأةٌ للألمْ.
..رأيتكِ قبل سنينٍ
أتيتُكِ
ثم كذبتُ: أحبُّكِ
ثُمَّ تنفَّسْتُ منْ شَفتَيْكِ فَحِيحَ الأنوثةِ
ثم هجرتُكِ بعدَ سنينٍ..
فصدَّقتُ جُرحي.

..وكنتُ إذا ما تجيئينَ أهربُ منكِ
وكنتُ إذا ما تروحينَ أركضُ خلفكِ
كنتُ أميلُ بوجهي على وردةٍ عندَ مَنبتِ فخْذَيكِ أسقيكِ شِعري وأبكي..
وكمْ كنتُ مكتفياً وسعيداً بحزني
وكمْ صرتُ حُراً وحيّاً بموتي..


بعثتُ
بعثتُ الرسائلَ
قلتُ لهمْ: لِمَ لَمْ تَضَعُوا لَفَّةَ الزّعترِ العائِليِّ بزوّادتي؟
ثُمّ قلتُ لساعي البريدِ: على مِقبَضِ البابِ علِّقْ كلامي.
ولكنَّهُ حينما عادَ لي عادَ لي يحملُ البندقيَّةَ..
صوَّبَها باتجاهِ تجاعيدِ قلبي وقالَ: لماذا تركتَ ثلوجَ المدينةِ تهطلُ فوقَ ضفائرِ أمِّكَ؟
-كيفَ أبي؟
-ينتِفُ العمرَ والشّيْبَ عن سالِفَيْهِ, ويسعلُ إسمَكَ.. يسعلُ إسمكَ..
يسعلُ.. يسعلُ..

حينَ أكملَ ساعي البريدِ
رصاصَتَهُ,
راحَ خيْطُ نزيفيَ يمتدُّ
يمــتدُّ
يمـــتدُّ عبرَ الزمانِ إلى
عتْبةِ الباب,
ثمّ استدارَ قليلاً قُبَيل الدخول
وخَطَّ على البابِ إسميَ
واسماً تهَجَّتْهُ روحيَ
حرفاً
فحرفاً
فحُلْماً
فموتاً:
منَـالْ.



27/ 12 /1998

* * *



الأرض الموصدة



مِنْ دمعةٍ لا تنتهي
إنّي أجيءْ
مِنْ شارعٍ يُلقي على كتفيه شالاً للخريفِ
مِنَ العواصفِ
منْ مساءاتٍ تذكّرنا بمَنْ تركوا روائحَهم وغابوا
من مرايا لا ترى إلا وجوهاً شابَ فيها الحلمُ
منْ صدأِ الكراسي في مقاهي البحرِ
ممنْ ينحنونَ وراءَ طاولةِ الحنينْ
ممنْ تثاءَبتِ الجرائدُ بينَ أيديهِم –كلابُ عيونِهم تخطو بيأسٍ خلفَ خطوِ العابراتِ-
من المخاوفِ
من فنادقَ لا تطلُّ على ثقوبِ جيوبِهم
من ربّهم
من كلِّ كلِّ الكائناتْ
إنّي أجيءُ الآنَ
متّشحاً بقايا العمرِ
مجتنباً وصايا الأهلِ
منطفئاً كناياتِ الصباحْ..

إنّي أجيئُكِ
هل فتحتِ البابَ؟
هل شاهدتِ عتبتَه ملطّخةً بدمعي, والعصافيرَ التي حطّتْ على وَرَقي فماتتْ في الطريقِ إلى يديكِ؟
يداكِ لا تتَفَتَّحَانِ كجَنَّتَيْ زهرٍ لنحلِ رسائلي
والكونُ حول قصيدتي صفصافةٌ قد أزهرتْ ناراً وناياً وانهياراً وامرأةْ..

لا يا امرأةْ
هذي المنافي لا تزيِّنُها القوافي
البردُ سكّينٌ تجزُّ مفاصلَ الكلماتِ
بنطالي ترقِّعُهُ الرّياحُ
وصورتي تصفَرُّ وهماً بعد وهمٍ فوقَ غصنِ الرّوح
وزَّعْتُ الطفولَةَ في العواصمِ كالأضاحي
لمْ أجِدْ أُمَّا تشابِهُني
ولا لُغةً تشابِهُ أغنياتي
لم أجدْ غيرَ الطحالبِ في المراكبِ
والعناكبِ في الحقائبِ
لم أجدْ في الدربِ غيرَ الدربِ:
هذا ما جَناهُ أبي علَيّ..

عليَّ أنْ أمشي قليلاً باتجاهِ البحرِ
في قلبي نوارسُ لا تَمَلُّ منَ الصُراخْ
وعلى الأماني أنْ تشيّدَ قلعتي في الرملِ
علَّ الحلمَ يحضنني لأغفو ساعةً قبل اجتياحِ المدِّ
قد أبكي قليلا
بيد أني قد أنامْ..

وعليّ أنْ أمشي طويــــــلاً باتجاهِكِ,
هل فتحتِ البابَ؟
ها إني افترشْتُ الآنَ زاويةَ الرصيفِ كعادتي –يا أيها الوطنُ الذي لولاهُ ما احتضنَ الرصيفُ وسادتي-
وكعادتي علّقْتُ فوقَ حبالِ شُرفتِكِ الصغيرةِ أعيني حتى تجِفّ,
وكعادةِ الطرقاتِ, أعمدةُ الإنارةِ كلُّها اشتعلتْ.. عدايْ
وتوجّستْ منّي المدينةُ مَوجِعاً لما دَوَتْ في حلكةِ الرؤيا خطايْ..
الضوءُ يرسم ظلَّكِ الليليَّ فوقَ ستارةِ الشبّاكِ
هذي أنتِ جالسةٌ على طرفِ السريرِ
تبلّلينَ الكستناءَ بماءِ خصركِ
تخلعينَ جوارِبَ الساقِ الطويلةَ عنْ سواحلَ لم يطَأْها زورقي المثقوبُ بعدُ
وترتدينَ قميصَ نومِكِ,
بيدَ أنّي لا أنامْ..

إنّي أجيءْ
منْ طعنةِ الطرقاتِ في الوطنِ المُطَيَّنِ بالطواغيتِ الطليقةِ
منْ سهولِ السوسنِ السكرانِ سراً تحتَ أسرابِ السنونو المستفيقةِ
منْ فؤادٍ عمرُهُ امرأتانِ قبلَكِ
منْ صحارَى أنبتَتْ صَبَّارَها في صدرِ أمّي:
آهِ أمّي
لا تخافي
سوفَ أرجِعُ بعدَ آخرِ خيبةٍ
فابقَيْ على قيدِ الحياةِ لألْفِ عامْ.

وأنا أجيءُ
نسيتُ أمّي خلفَ موقِدِها لتغزِلَ بالبنفسجِ كنزَةَ الصوفِ التي لن أرتديها..
هلْ فتحتِ البابَ؟
هل نامتْ سيوفُ الطائفةْ؟
لكِ طائفةْ
وليَ الأماني الخائفةْ
ولنا سماءُ الأرضِ تُمطِرُ في صلاةِ العاصفةْ.

الأرضُ موصَدةٌ
إلى ما شاءَتِ الأنهارُ أنْ تجري
إلى ما شاءتِ الأشجارُ أن تشجو عليّ
الأرضُ موصدةٌ عليّ
وظلُّكِ العاري يرصّعُ شهوةَ الكلماتِ بالفُلِّ الذي ينسَلُّ منْ أطرافِهِ ليلاً إليّْ.
..ليلٌ
لكي أرمي على قدميكِ آخرَ أمنياتِ الملح
ملحٌ
سوفَ تجرفُهُ السيولُ
سهولُنا
حمراءُ في أفقِ القصيدةِ
القصيدةُ
آذنَتْ لي بالرحيلْ

لمْ تفتحي لي الباب,
سُحقاً
يا
بلادي..

9/1998

* * *



تنهُّداتٌ فجريّة



-أولاً-

يتَنهَّدُ العشّاقُ فجراً
تختفي أحلامُهُمْ تحتَ الشراشِفِ
تُفتحُ الأبوابُ
يندفِعُ الصغارُ مِنِ انتِفَاخاتِ الجفونِ إلى مدارسِهِمْ
يمرُّ الباعَةُ المتجوِّلونَ على جِدالِ الأمّهاتْ
تتبادلُ الفتيَاتُ مع عُشَّاقِهِنَّ رسائلَ الدِّفلى –سريعاً- خلفَ سورٍ منْ حنينْ.
فجراً يعذِّبُني القرنفلُ
صوتُ جارتِنا المدجَّجُ بالشَّبَقْ
درَجُ البِنايَةِ إذْ يُقَبِّلُ جمرَ خطوتِها لموعدِها المعطَّرِ

..كلُّ حُبٍّ غيرُ حُبِّي يبتدي فجراً
وفجراً أنتَهي منْ نَوْبةِ الكلمات
أستلقي على حُمّى سريري
ثُمَّ أحتضنُ الوسادةَ
بانتظارِكْ..




-ثانيا-

تتَنهَّدُ الأشجارُ فجراً
..كنتُ أجلِسُ فوقَ كُرسِيِّ الحديقةِ
هذهِ الورداتُ لي وحدي
وهذا الدِّفْءُ لي
وفَراشَتي البيضاءُ أيضاً
والسنونو لي وأجراسُ الكنائسِ
والنساءُ بعطرِهِنَّ على رصيفِ القلبِ لي
ومواقفُ الباصاتِ لي والغيمُ والبحر الكبيرُ
وكلُّ شيءٍ صارَ لي في الفجرِ
إلاّ ساعَتي
لمّا جلسْتِ بجانبي
وأرَحْتِ كرسيَّ الحديقةْ..




-ثالثا-

يتَنهَّدُ الغرباءُ فجراً
..أيّها الغرباءُ كمْ إنَّا أنِسْناكُمْ
فمَنْ قالَ اذهبوا؟
هذي الحقائبُ لا تُحِبُّ رحيلَكمْ هذا
لِذا ثقُلَتْ عليكمْ.

إذهبوا مادُمتمُ حقّاً توَدّونَ الذهابْ.
ستَنوحُ أبوابُ المدينةِ
سوفَ تتبعُكُمْ شوارعُنا وتبكيكُمْ عذارانا
ستحكيكُمْ دفاتِرُنا وتحفظُكُمْ مرايانا
اذهبوا
لا ليسَ يجديكُمْ توسُّلُ أهلِنا
فنبيذُنا ما عادَ يُسكِرُكُمْ. ولا
عادَتْ أغانينا تُسَهِّدُكُمْ. ولا
عادَتْ ليالينا لياليكُمْ. نَعَمْ
قلتُ اذهبوا
لكنْ خذوني
أو دعوا لي ههنا امرأتي
لأحلِفَ للمدينةِ أنَّكُمْ
لَمْ تذهبوا..


20 / 2 / 1999
* * *



شمال دمشق.. على البحر



سيكسِرُ غُصناً
ليرسِمَ في الرّملِ باباً
ويدخُل,
..تلكَ وسيلتُهُ في الهروبِ منَ البحرِ
آنَ يرى البحرَ يُفشي بأمواجِهِ للرّمال.
تعبتُ منَ الموجِ, قال:
لأنَّ لصوتِهِ في الليلِ صوتُكِ
لمّا اضطَجَعْتِ على ساحلِ الروحِ عارِيةً في مهَبِّي.
وقالَ: تعِبْتُ منَ الليلِ
كانَ لصمتِهِ صمتُكِ
لمّا كسَرتِ حيَاتي إلى وردتينْ..


سيكسِرُ غُصناً..
ويكملُ:
بعدَ ضياعينِ منذُ دخولي المدينةَ
كانَ الشتاءُ يعلِّقُ غيماتِهِ فوقَ حبْلِ الخريف,
رأيتُكِ, فابتعَدَ الغيمُ عنِّي
اندفعتُ.. نثرتُ القُرى في طريقي إليكِ,
وكنتِ على السفحِ قُربَ القصيدةِ
قلتُ: ادخُلِي أحرُفِي..
فدَخلْتِ,
وما إنْ ضمَمْتُكِ حتى سمعتُ
ومثلي سمعتِ
انهمارَ دموعِكِ فوقَ السفوحْ..


ويكسِرُ غصناً, ليرسِمَ في الرّملِ باباً.
..هوَ ابنُ الحِجازِ
أتى قبلَ خمسِ قوافلَ في رحلةِ الصيفِ
ضيَّعَ في الدربِ عشرينَ طفلاً وقالَ: وجدتُكِ
يا مَنْ تُطِلِّينَ منْ جَبَلٍ في شَمالِ دمشقَ على البحرِ,
ربَّتْكِ أمُّكِ في أُصُصِ الفُلِّ عشرينَ عاماً لأجلي
وصبَّتْ على جسمِكِ الغَضِّ خمرَ الأنوثَةِ منْ أجلِ دَنِّي
وشيَّدَ قومُكِ عرشَكِ منْ خشَبِ الأرْزِ
واحتفلوا باحتِفَانِكِ تاجَ الكواعِبِ
أقْبَلْتُ
أقْبَلْتُ ثمَّ اختطَفْتُكِ منْ حربِ طائفتَيْنِ على الشّامِ
طُفْتُ بِكِ البَرَّ والبحرَ والدَّمّ
خبَّأتْ في زَرَدي جَسَدي
وشطرْتُ بسيفيَ روحَ الظلامْ.
وحينَ رأتْكِ العَذَارى
تمنَّيْنَ لوْ كُنَّنِي,
وإذْ شاهَدَتْكِ المليكاتُ طَوَّبْنَنِي
وسَمَلْنَ عيونَ المُلوك
فعَمَّ الســلامْ..


ويكسِرُ غُصناً ويرسِمُ في الرّملِ باباً.
..هيَ ابنةُ خُضرَتِها,
وسَّعَتْ بَرَّها
فرأينا الوُعولَ التي احتشدَتْ حولَها
والوحوشَ التي أنِسَتْ نبعَها
ورأينَا الغزالاتِ تشربُ منْ ظِلِّها.
وهي ابنةُ زُرقَتِها,
وسَّعَتْ بحرَها
فرأينَا النوارسَ تغفو على شالِها
ورأينا اللآلِىءَ تمطِرُ من ليلِها
ورأيناهُ
يكسِرُ غُصناً
ويرسِمُ باباً
ويدخلُ
يدخلُ
يدخلُ في رملِها..


18/8/1999


* * *














II- الحـديقة




آدم



وصلْتُ إلى الأرضِ فجراً
وها أنَذَا
أنفُضُ الآنَ عنْ كتِفَيَّ الطريقَ الطويلْ
أجُولُ بعينيَّ حولي
وأرفَعُ وجهي: وداعاً لكمْ يا رِفاقَ السمَاء.. وداعاً لكمْ
هذهِ الأرضُ أصغرُ مِمّا ظنَنْتُ
وأكبَرُ مِمّا اقترفْتُ
وهذا الخرابُ جديدٌ جديدٌ عليّ..
أعُدُّ عِظامي.. فأبكي
لأنَّ التي طرَدَتْنِيَ منْ جنَّةِ العمرِ ناقصةٌ منْ ضُلُوعي!.
تقولُ ليَ الشمسُ: حوّاءُ لمّا تصِلْ بعدُ.
..يا شمسُ إنَّ الحبيبةَ أكمَلُ منِّي جُحُودَا
وأجمَلُ عودَا
ولوْ أنَّ ربّيَ قالَ لإبليسَ: أسجُدْ لِحوَّاءَ,
..خَرَّ سُجُودَا!.


وصلْتُ إلى الشّامِ ظُهراً
وحواءُ في الهندِ تبكي
تخاطِبُ وجْهَ الفضَاءِ الجريحِ, وتبحثُ عنْ صدرِ آدمَ,
تبحثُ.. تبحثُ عنْهُ
لتُرْسِي عليهِ ضفائِرَها الذابِلَةْ
وحوّاءُ تمشي.. وتمشي إلى قِبْلَةٍ مائِلَةْ
وآدمُ يمشي إلى أرضِ يثرِبَ روحاً وحُلْماً
ويمشي
فيَلْمَحُ في البُعدِ إمرَأةً ضائِعَةْ..
ويركضُ آدمُ
تصرخُ حوّاءُ
يلتقيانِ على ضِفَّةٍ جامِعَةْ.


..يقولُ الرُّوَاةُ: عنَاقَهُمَا كانَ كانَ طويلاً
وتحتَهُما كانَتِ الأرضُ:
تُفّـَاحَةً هـائِلَـةْ..


2/ 1998

* * *




كم كذبتَ علينا



1- أوقاتُه

سنعرفُ عُمرَهُ
حينَ نعُدُّ فناجينَ قهوتِهِ الفارِغَةْ.
وحينَ نرَى شجَرَ السّرْوِ إذْ ينحني لخُطاهُ
سنمدحُ قامَتَهُ الفارِعَةْ
إلى آخرِ الليلِ
تبكي عليهِ القصيدةُ
لا يستطيعُ الكتابةَ إلاّ على دفترٍ أسودِ الصفَحاتِ
لأنَّ أمانِيهِ حينَ تلامِسُ حِبرَهُ
ينسابُ أبيضَ شفَّافَ حتى الغدير..
يخافُ المرَايا
لأنَّ تجاعيدَ حُلْمِهِ تُخفي نضَارَةَ خيْباتِهِ
ويخافُ النساءَ
لأنَّ رُؤَاهُ تشُمُّ روائِحَهُنَّ على بُعدِ خمسينَ حُزْناً
وأيضاً دماهُ تُحِسُّ خناجرَهُنَّ على بُعدِ خمسينَ جُرحاً..
يحبُّ البلادَ
ويصفَحُ عنها برغمِ المنافي التي شقَّقَتْ عَقِبَيْهِ.
يُطيلُ الجلوسَ على نهرِ حِمصَ
ليسقي بناياتِ نِرْسِيسَ ليلَ البساتين..
يفتحُ أبوابَهُ لهْفَةً لهْفَةً
بانتظارِ شروقِ القصيدةِ
لكنّها حينما لا تجيء
نرى صرخةَ الفجرِ
مذبوحةً تحتَ شُبَّاكِهِ كامْرَأةْ.
..سنعرفُ كمْ مرةً سنحبُّهُ
حينَ نَعُدُّ
سجائِرَ
أوقاتِهِ
المُطفَأةْ..



2- صديقي

رأيتُ الأغاني جداولَ حزنٍ تشُقُّ سهولَكَ,
وحدَكَ منْ يشربُ الآن,
والأقحوانةُ عطشى.
رأيتُ البلادَ سماءً سماءً تضيقُ بقامَةِ حُبِّكَ,
وحدكَ منْ يصعدُ الآن,
والأرضُ ثكلى.
رأيتُ خُطاكَ
تُضَفِّرُ شَعرَ الطريقِ الطويلَ صباحَ الكلامِ,
رأيتُكَ تصْحَبُ أنثى الحروفِ
وتترُكُ أنثاكَ -خلفَ غُبارِ خيولِكَ- دونَ يديكَ,
رأيتُكَ حينَ استدَرْتَ بمُنْتصَفِ الأغنياتِ
وعُدتَ إليَّ
لتأخُذَني -يا صديقي-
إلى الهاوِيَةْ.



3- سَهَـرْ

وكعادَتِنَا
نتبادلُ قهوةَ أشعارِنا في ليَالي الجُنَيْنَةِ
لكنّنا
حالما نتَلَمَّسُ صُبْحاً منَ الدّمعِ
سالَ منَ الفُلِّ في أُصُصِ الوقتِ,
أو حالما نَتَنَبَّهُ للياسمينةِ
مالتْ على كَتِفِ الريحِ
مُلقيَةً شالَها نَدَفاً في مهَبِّ التَّأَوُّهِ
أوْ حالما نتَحسَّسُ عشرَ أصابعَ
جفَّتْ على ورَقِ الشِّعرِ
إذْ نتَصافحُ عندَ نهايةِ سهرَتِنا,
حالما كلُّ هذا وذلك
نُدركُ.. نُدركُ
أنَّ الذينَ بكيْنا غيابَهُمُ في القصيدةِ
لنْ يرجِعوا.



4 – سؤال

تشْتَهيني العذارى
لأنّي
أضاهيكَ طولاً
وتكرهُني الأمَّهَاتُ
لأنّي امتدحتُكَ أكثرَ ممّا فَعَلْن,
فَيَا لَيْتَ قلبي يشابِهُ قلبَكَ
حتّى أضاهِيكَ طولاً وعرضاً وعشقاً وشِعرا..
أعِدْنِي صغيراً
لتُمْلِي على حُسْنِ خَطِّي غُموضَ كلامِكَ
ما بينَنا كانَ عشرينَ عاماً منَ العُمْرِ
كنتَ تُفتِّشُ وحدَكَ عنْ تَلَّةٍ يعتليها الجَسَدْ.
مضى الآنَ عشرَةُ أعوامَ يا صاحبي
وما زالَ بيني وبينَكَ عشرينَ عاماً
ولكنّنا الآنَ
صِرنا معاً
نُفتِّشُ عنْ تَلَّتَينِ
حنيناً حنيناً.. منافي بَلَدْ.
فماذا فعلنا -أجِبْني-
لكي نعتلي كلَّ هذا الزَّبَدْ؟.



5 – دخـول

تَشُقُّ كرُمحٍ هواءَ المكان
وتَجلسُ كالسيْفِ مُنْتَصِباً بيْنَنَا..
كمْ كذَبْتَ علينا
نعمْ كمْ كذَبْتَ
أمَا كُنتَ تعرفُ
أنَّا سمِعنَاكَ تبكي وراءَ الجِدَارِ
قُبَيْلَ دخولِكَ
مُبتَسِماً بيْنَنَا..



6 – ملاحظة أخيرة

كلُّ ما قلتُهُ عنكَ مُنْذُ قليلٍ قليلٌ كثيراً..


12/ 11 / 1998


* * *


















III- عندَ النـافِذَة

خريفٌ لأشجارِ كارولينا


الآنَ نكسِرُ ما تبقّى منْ كؤوسِ الليلِ والحلمِ القديمْ
الآنَ نرثي فوقَ طاولةِ اللقاء
القهوةَ السوداء
والقُبَلَ الأخيرةَ
واحتضارَ الشمْعِ بينَ الذكرياتِ وبينَ نبضاتِ الأنينْ
والآنَ نجلِسُ – كارولينا-
تحتَ أمطارِ المساءْ
نبكي كما صفصافتين
تبلّلينَ سواعدي بالكُحلِ والسحُبِ الثقيلةْ
وتودِّعينَ دفاتري
وتموتُ في كفِّي قرنفلةٌ وآهاتٌ طويلةْ
برقٌ على الشطآنِ يرعبُنا
وتقذفُكِ المرافئُ
والنوارسُ
فوقَ باخرتي
قتيلةْ..


الآنَ نكسِرُ ما تبقّى منْ كؤوسِ الليلِ والحلمِ القديمْ
إنّي رسمتُ على يديْكِ الياسمينْ
ووهبْتُ عينيكِ انتظاري فوقَ أرصفَةِ الحنينْ
الريحُ تصرخُ عندَ نافذتي كقلبي
كلُّ شيءٍ مُمطِرٌ فينا
وتنطفئُ الأغاني
ثم تختلِجُ الشفاهُ
وترحلينْ:
تمشينَ داميَةَ الخُطى وأصيحُ بالقمرِ المهاجِرْ
وتُبعثرينَ مواجـعي بينَ الضفائرِ والضفائرْ
وتراقصينَ فَراشَـةً تبكي على أوتارِ شاعرْ
فأرى دموعَكِ كي أرى صدري تعانقُهُ الخناجرْ
إنّي رسمتُ على يديْكِ الياسمينْ
كمْ خانني بحرٌ
وكمْ رسمَتْ ليَ النجماتُ درباً للضياعْ
كمْ خانني حُبٌّ
وكمْ تركَ الذينَ أحبُّهُمْ بيدِي رسائلَ للوداعْ
أحنو على جسدٍ تطاردُهُ الرماحْ
وأُطِلُّ منْ شُبّاكِ أحلامي على حقلِ الجراحْ

يا كارولينا
كلّما فتّشتُ في صدري عن امرأةٍ سواكِ
أضيعُ منّي,
كلّما عانقتُ صُبحَكِ في نهاياتِ الرؤى
مالَ الغديرُ بأعيني نحو الشفَقْ
ورمى الفؤادُ نهارَه ومضى
إلى أبَدِ الأرَقْ
ومضى
إليَّ مضى
ليفتحَ دفتري
ويبوسَ وجهَكِ في الورَقْ..

يا كارولينا الريحُ تصرخُ عندَ نافذتي
كقلبي حينَ جاءَكِ في المساءِ ولمْ يجِدْكِ
كرسالتي الأولى إليكِ
كقصيدةٍ طارَتْ وما حطَّتْ على دِفلى يديْكِ
..أبكي على قلبي ونافذتي
وأغلقُ خلفَ خطوتِكِ الأخيرةِ بابَ آمالي
وأجثو قربَ مدفأتي
لأحرقَ ذكرياتي كلّما نادَتْ عليكِ..

الآنَ أكسِرُ ما تبقّى منْ كؤوسِ الليلِ والحلمِ القديمْ
ما نامَ شعرُكِ تحتَ كفِّي مثلَ غابَةِ كستناءْ
ذوَّبْتُ أوهامي بكأسي وانتظرتُكِ في العراءْ
سُبْحان مَنْ نَدَّى شفاهَكِ
ثُمّ أعطاني البُكاءْ
البحرُ يتركني ويتركني فيتبعُهُ الشجَرْ
ذهبوا وما تركوا لديَّ
سوى البنفسجِ في صوَرْ
هذي الشوارعُ لستُ أعرفُها
وأمشي
ثم أصرخُ.. أو أصلِّي
لا أرضَ تحضُنُني
ويحضنُني المطَرْ

..ولِكارولينا إذ تغيبْ
حزنُ اليديْنِ على ذبولِ الوردَتيْنْ
ولِكارولينا والصّليبْ
غزَلٌ ينامُ على رسائِلِ عاشقينْ
..لكِ كارولينا
ما أريدُ ولا أريدْ
يا مَنْ تركْتِ الحزنَ يفترِسُ الرؤى
وتركتِ في صدري
نحيبَ الأمنياتِ
منَ الوريدِ
إلى الوريدْ..

لم يبقَ شيءٌ مِنْ كؤوس الليلِ والحلم القديمْ
لا تحسبي أنّي شكوتُ إلى الشواطئِ حُرقتي
لكنّها
قد شاهدتْكِ تسافرينَ كزورقٍ في دمعتي
قد شاهدَتْ قلبي
يحاولُ رسمَ عصفورٍ على غُصنِ الرمادْ

يا كارولينا سافري
قلبي كؤوسُ الليلِ والحلمُ القديمْ
وسافري
للحُبِّ عطرٌ دائمُ
للعطرِ ذاكرةٌ
وعطرُكِ في الزوايا نائمُ
للعطرِ ذاكرةٌ
ويذكر أنّنا
في ذاتِ حُبٍّ
قد جلسْنا
تحتَ أمطارِ المساءْ
نبكي
ونكسرُ
ثمّ نكسرُ
ما تبقّى منْ كؤوسِ الليلِ
والحلمِ القديمْ..

10/ 1996
* * *



وداعاً لنا



بعدَ إحدَى وعشرينَ عاماً
أحدِّقُ في الصمتِ وحدي
ووحدي أحدِّقُ في الصمتِ
أدرِكُ أنّي كذبْتُ عليَّ
وأدرِكُ أنَّا كذبْنَا علينَا
وما بيننا
كانَ زَلَّةَ حُلْمٍ أتاحَ لنا
أنْ نُغيِّرَ صورتَنا في المرايا قليلاً
وأصواتَنَا في الصّدَى..
نحنُ لمْ نعترِفْ مرَّةً في مسَاءاتِنَا
أنَّ ثَمَّ طيوراً سترحلُ عندَ الخريفْ
ودمعاً سيغسِلُ خَدَّ الرصيفْ
النوافذُ تفتحُ أحلامَها للرياحْ
والشوارعُ خاوِيَةٌ
والحدائقُ عارِيَةٌ في مهَبِّ الظلامْ
الزنابقُ تذبُلُ
والقلبُ يذبُلُ.. والأغنياتُ
الفَراشُ يَرِفُّ بعيداً بعيداً عنِ الروح
والروحُ تطفِئُ قنديلَها.. وتنامْ

بعدَ إحدَى وعشرينَ عاماً
نُعِدُّ الحقائبَ منْ أجلِ هذا الصباحِ الأخيرْ
وداعاً لنا
سوفَ نشهَدُ بعدَ رحيلِ القطارِ
المناديلَ وهي تطاردُهُ في الطريقِ إلى آخرِ العمرْ
وسندركُ أنَّ الطريقَ إلى آخرِ العمرِ
ليسَ الطريقَ إلى العمر,
سوفَ نُغيِّرُ شكلَ الرسائل
سوفَ نُصدِّقُ دمعَ الحروفِ ودمعَ الحمامْ
سوفَ ننصِتُ للقلبِ
وهْوَ يبُثُّ الشّكَاةَ كليمَ الكلامْ
سوفَ نكبَرُ عاماً فعاماً
وحزناً فحزناً
وتكبُرُ فينا شرُوخُ الرّخامْ
سوفَ ننسجُ من خيْطِ دمعَتِنا
خيْمةً للجلوسِ على صخرةِ الذكرياتِ
وسوفَ نخونُ أحِبَّتَنا في المنامْ..

بعدَ إحدَى وعشرينَ عاماً
وبضعِ خناجرَ
أفتحُ طاولتي للقصيدةِ
أنفُضُ عنها بقايا الوداعِ
وعنّي بقايا السرابْ
ليسَ بيني وبينَ التي ذهبَتْ
غيرُ خمسِ دقائقَ من وجَعٍ وغيابْ
لنْ أحاولَ أنْ أتذكَّرَ إسْماً ولا صورةً
بعدَ أنْ أغلِقَ الآنَ هذا الكتابْ
وسأبقى هنا
عاشقاً
يحفَظُ الحُبَّ عن ظهْرِ جُرحٍ
ويمسحُ عن وَجنتَيْهِ السحابْ
وسأبقى هنا
كي أُهدِّئَ موجَ الحنينِ على ساحلِ القلبِ
ثُمَّ أباعِدَ عنْ مرفَأِ اليأسِ هذا الضبابْ
وسأبقى هنا
وهنا.. وهنا
لأضمِّدَ هذي العصافيرَ
ثم أطيِّرُها للّتي
أوصدَتْ بيننا
ألفْ باب
وإحدَى وعشرينَ حُلْماً.. وبابْ.


4/ 1998


* * *

















IV- غرفةٌ للحلم




من آخر النسيان عادت



لمَ كلّما طاردتُ زنبقةً على نهرٍ
يجفُّ النهرُ من حولي
وتحترقُ الحقولْ ؟
لمَ كلّما أعددتُ للنسيانِ خمرتَهُ
وألقيتُ الأغانيَ في مهَبِّ الذكريات
بكَتْ كؤوسي فوقَ طاولتي
وعادَتْ أغنياتي تحملُ الذكرى
وتحمِلُها الخيولْ ؟
لمَ كلّما أوصدتُ أبوابَ القصيدةِ,
ألْمَحُ امرأةً على الشّباكِ
تأذَنُ بالدّخولْ..

البحرُ يجهشُ فوق صدري,
آنَ لي
أنْ أحتسي موجَ التي غرسَتْ نخيلَ عنادِها
في شاطئِ الحبِّ الطويلْ
يا ذَا الذي علّمْتَني الأسماءَ والأشعارَ
علِّمْها القليلَ مِنَ التلَطُّفِ فيَّ,
علِّمْها القليلْ..
نشرَتْ شموسي حولَ سُرَّتِها
وعمري حولَ فِتْنَتِها
وليلي حولَ كوكبِها الجميلْ.
أخذَتْ هوائي
وامتطَتْ حلمي وسارتْ
ثمّ سارتْ
ثمّ سارتْ في جراحي
لا هِيَ انطفَأَتْ ولا انطفَأَ الصهيلْ
كمْ مُتعِبٌ هذا الرحيلْ
كمْ مُتعِبٌ هذا الرحيلْ


مِنْ آخِرِ النِّسْيانِ عادَتْ
مِن رسائلِها ومن صُوَري القديمة
من قصائديَ الحميمة
من زهوري
مِنْ آخِرِ النِّسْيانِ عادَتْ
كيْ تراني تحتَ قنديلِ اغترابي جاثياً
بالدمعِ أرسمُ وجهَها فوقَ الحصيرِ
عادَتْ إليَّ لكيْ أُمشِّطَ شعرَها بأصابعي
وأقبِّلَ الكرَزَ المُعَلَّقَ بينَ أكتافِ الحريرِ
عادَتْ إليَّ لكيْ تُخبِّئَ تحتَ إبطَيْها مراياها
وتترُكَني على نهري كنِرْسِيسٍ ضريرِ
عادَتْ تجُرُّ.. تجُرُّ عاصمةَ الأنوثةِ خلفَها
بهوائِها ويمامِها.. بورودِها وغيومِها
بثلوجِها.. بلهيبِها.. وشموسِها ونجومِها
عادَتْ لتُدخِلَها إلى بيتي الصغيرِ
مِنْ آخِرِ النِّسْيانِ عادَتْ
أيقظَتْني
أيقظَتْ قلمي.. وأوجاعي
ونامَتْ في سريري..

في آخرِ المنفى
جميلاً ينحني ظلُّ الغريبِ على الغريبةِ
حينَ يلْقاها بوجْهٍ غامضٍ كالانتحارِ,
تحبُّهُ
وتخافُ من كفَّيْهِ حينَ تراقصانِ مُرُوجَها
يشكو إليها خائِرَ الكلماتِ
منْ ذئبٍ يطاردُهُ إلى حُبِّ يقيِّدُهُ
ويجهَشُ بيْنَ نهدَيْها بأسئلةٍ
تُحرِّكُ موجَها الغافي على رملِ الجفونْ
في آخرِ المنفى
أحبُّكِ
أعتلي درجَ الصعودِ المستمرِّ إلى الصعود
وأحملُ الأيّام
ذاكرةً تُضيئُكِ شمعةً بينَ العيونْ
في آخرِ المنفى
أحبُّكِ
ليسَ لي إلاّ سريرُكِ يحتويني
حين تدركُني الذئابُ.. وحينَ تأكلُني الشّجونْ

قمرٌ لنهرٍ مدينتي قمرٌ لأشجارِ الشوارعْ
قمرٌ لخمْرةِ غيمتي قمرٌ لأزهـارِ المدامعْ
قمرٌ لطيرِ وصيَّتي قمرٌ لأوتـارِ الروائعْ
قمرٌ هنا.. قمرٌ هناك
وآخرٌ بينَ الزوابعِ والزوابعْ
..سأوزِّعُ الأقمارَ للأقمارِ منْ حولي وحولِكِ
لا أريدُ منَ القصيدةِ غيرَ إسمِكِ
غيرَ إسمِكِ.. والمواجعْ

لمَ كلّما أوصدتُ أبوابَ القصيدةِ
ألْمَحُ امرأةً على الشّباكِ تأذَنُ بالدخولْ
مِنْ آخِرِ النسيانِ عادَتْ
أيقظَتْني
أيقظَتْ قلمي وأوجاعي ونامتْ
كالفَراشَـةِ
في سريري..
حدَّثَتْني وهْيَ نائمةٌ كلاماً
عنْ بلادِ الأقحوانِ.. وعنْ حقولٍ مِنْ ذَهَبْ
عنْ ياسمينِ النهرِ
عنْ شمسِ البنفسجِ في بُحورٍ من جُمان
حدَّثَتْني عنْ رياحٍ للعصافيرِ الصغيرةِ
عن غيومٍ حولَ تُفّاحِ الجداولِ
عن خمورٍ للصباحِ.. وفِضَّةٍ للأمسيات
فَراشتي في ذاتِ ليلٍ حدَّثَتْني
عنْ شموعٍ تُشعِلُ المَرْجَ المُلَوَّنَ بالأصيل
وعنْ هديل
يجعلُ النّايَاتِ باقاتٍ منَ الفرحِ الجميلْ

نامَتْ بغُرفَتِيَ الفَراشَةُ ذاتَ ليل
ودَّعَتْني في الصباح,
أغلقْتُ شُبَّاكي وراءَ رَفِيفِها
ورجعتُ نحوَ دفاتري
حُلْماً.. قتيلْ..


9 /1997
* * *



قصّة في مشهدين



1- المشهد الأول:


طالَ جِسرُ العتابِ كثيراً بنا
فوقَ نهرِ الظلامْ
مُتعَباً رُحتُ أنظرُ
نحوَ خرَابِ السريرِ, وفوضى الكلامْ
نحوَ نَسْجٍ لثوبِ القصيدةِ
لمْ يكتمِلْ منذُ عامْ
فوقَ صدرِكِ تُفّاحتانِ تسيلانِ صيْفاً
وما بينَ فَخْذَيكِ
عِشرونَ أنثى يُطيِّرْنَ نحويَ سِربَ الحمامْ..
مالَ شعرُكِ نحوَ مرايا النّبيذِ,
ومِلْتُ.. ومِلْتُ..
سقطتُ بكأسِكِ
نادَيْتِ باسمي
نهضتُ ودخَّنْتُ عشرَ سجائرَ أخرى
ونادَيْتِ باسمي,
حملْتُ الحقيبةَ
سِرْتُ بعَتْمِ المَمَرِّ الصغير
نسِيتُ الثِّقَابَ فقُلتُ معي الذكرياتْ..
كانَ مِقبَضُ بابِكِ مثلي
يَحِنُّ لتقْبِيلِ نرجِسِ كفَّيْكِ عندَ الخروجِ وعندَ الدخول
فتحتُ..
لكيْ أبصِرَ الموجَ يضرِبُ صخرَ الرحيل
خرجْتُ..
لتدخُلَ ريحُ الشّتَاء

وأنتِ
تدَلَّيْتِ مثلَ الشراعِ على شُرفَةِ البحر
نادَيْتِ
نادَيْتِ باسمي,
فلمْ أستدِرْ نحوَ نهرٍ يسيرُ ورائي
ولم أنتبِهْ لاغترابِ خُطايَ
ولم أنتبِهْ
لاحتضارِ النّداءْ..




2- المشهد الأول:

طالَ جِسرُ العِتابِ كثيراً بنا
فوقَ نهرِ الظلامْ
متعَباً, راحَ ينظرُ نحوَ خَرابِ السريرِ
وفوضى الكلامْ
نحوْ نَسْجٍ لثوبِ القصيدةِ
لمْ يكتمِلْ منذُ عامْ
كانَ يبصرُ فوقَ وسائدِ صدري
ذبولَ الأغاني ونومَ الحنينِ
وما بيْن فَخْذَيَّ
عَتمَةَ أنثى وموتَ الحمامْ..
هلْ شربْتَ النبيذَ لتُشعِلَ مدفأةَ الذكريات؟
لترسِمَ جسميَ قَيْثارةً تعزِفُ الأمنياتْ؟
هل شربْتَ النبيذَ لتقرَأ خلفَ عيوني عناوينَ حُزنِكَ؟
أمْ كيْ تسافرَ خلفَ طيورٍ
تُساهِرُ في الليلِ أشجارَ روحي
وتهبِطُ فوقَ نوافذَ مفتوحةٍ في جروحي؟

..تطَلَّعَ نحوَ يدَيَّ وغنَّى:
أحبُّكِ حينَ يطولُ السفَرْ
وحينَ يصيرُ الوصولُ انتحاراً
ويصبحُ نومي على ساعدَيْكِ سهرْ..

ثمَّ قامَ يفتِّشُ في جيبِ معطفِهِ عن يَرَاعِ المساء
وأخرجَ دفترَهُ مِنْ حقِيبَتِهِ
راحَ يصعدُ بُرْجَ القوافي رُوَيْدا رُوَيْدا
ويرمي إليَّ الشرَرْ..
قلتُ: كيفَ تُشرِّدُ حُلْمَكَ عنّي
وأنتَ تحاورُ غيْمي وترمي عليه المطَرْ؟
كيفَ تُطلِقُ طيرَ المساءِ الصغيرِ
لوَحشةِ أفْقِ البراري
لريحٍ تُجمِّعُ دمعَكَ حوليَ مثلَ الغمامْ؟
كيفَ تجرَحُ فيَّ فَراشَةَ صوتيَ
آنَ تطيرُ إليكَ
لتجمَعَ في مُقلتَيْكَ الحُطامْ؟..

طالَ جِسْرُ العِتابِ كثيراً
كثيراً بنا
فوقَ نهرِ الظلامْ..

عادَ نحوَ سريري
تغَطّى بشَعري
تأمَّلَ عيْنَيَّ عشرينَ صُبْحاً
تأمَّل عشرينَ جُرحاً..
ونَــــامْ..



2 / 1997

* * *



تركتُ حياتي



تركتُ على رُكبتَيْكِ حيَاتي
وسِرتُ بعيداً عنِ الياسمينْ
نعمْ
هكذا.. هكذا, وبِلا أيِّ ماضٍ
يُعلِّقُ مِعطَفَ ذاكرتي الرثَّ تحتَ غمامِ الأنينْ
ليَ الآنَ خلفَ السفوحِ بساتينُ أخرى
وصَفُّ نخيلِ يميلُ معَ النّايِ أنَّى يميلُ
ورَفُّ حمامٍ ينامُ على حِضنِ ليلٍ أمينْ
ولي أنْ أعيشَ هناكَ بلا تعبٍ
بحياةِ القصيدةِ
لا بحياتي
على رُكبتَيْكِ
تركتُ حياتي
سليماً مُعافىً مِنَ الياسمينْ
نعمْ هكذا هكذا
وكأنِّي سأنجو بشِعري
منَ الذّكرياتِ
وحُمَّى الحنينْ..


* * *



قصيدة الليل



في الليلِ تنبلِجُ القصيدةُ،
تخرجُ الأنثى بسلَّتِها إلى بُستانِ ذاكرتي
لتجمَعَ باقَةَ الدمعات،
اتبعُ ثوبَها الوَرديَّ
اتبعُ جُرحيَ الدُّوريَّ
أمتشِقُ المحابرَ والدفاترَ
أعتَلي أفْقَ الهواجِسِ
أعتَلي خفْقَ النوارِسِ
ثمّ أصعدُ
ثمّ أسرِقُ غيْمةً أخرى وأصعدُ
ثمّ أصعدُ
ثمّ اسقطُ والغمامْ
لابُدَّ لي
قبلَ انفصالِ الليلِ عن شُبَّاكيَ المفتوح
أنْ أرمي الكواكبَ والخلاخلَ
والمواكبَ والرسائلَ نحوَ مَنْ
قدْ أغلقَتْ في وجهيَ الشُّباكَ والأحلامَ
مِنْ عشرينَ عامْ
يا أوَّلَ الكلماتِ كوني نحلَةً
لزهورِ أنثاي العنيدةِ
كيْ أعبِّئَ فِضَّةَ النهدَيْنِ منْ عسَلِ الكلامْ
لابُدَّ لي
أنْ أستَرِدَّ الآنَ بحرَكِ
كيْ أغطّي رملَ أغنيَتي بموجِكِ
قبلَ أنْ يمضي الظلامْ
لابُدَّ لي ألاّ أنامْ
حينَ اليَراعُ يصيرُ ناياً جارحاً
أو حينما تهمي عصافيري القتيلةُ
فوقَ خَدِّ وسادتي
وينوحُ في الحلُمِ الحمامْ


في الليلِ أرسو عندَ مرفئِكِ القديمِ
أصيحُ باسمِكِ موجَةً مخنوقةً أو نوْرسَةْ
وأصيحُ باسمِكِ قارِباً هجرَتْهُ ريحُ اليابسَةْ
وأصيحُ نجْماً أو دُخَاناً
أو أغانيَ يائسَةْ
في الليلِ تلْتحِمُ البيارقُ بالرياحْ
في الليلِ ينكسِرُ المدى
في الليلِ تنْسَرِبُ الحدائقُ في الجراحْ
في الليلِ ينسكبُ النّدى
ألقلبُ إنْ يبكي فلا يبكي سدى
ولقلب أصغرُ منْ يديكِ
ومنْ رحيلي في الصدى
والقلبُ يصرخُ حولَ خَصرِكِ
حولَ نرجسةٍ
تمُدُّ لهُ يدَيْنِ من الرّدى..
في الليلِ أسقي غرفتي دمعي
فتُورِقُ في زواياها جراحاتي
ويذبلُ فوقَ طاولتي البنفسجْ
في الليلِ أنسجُ ثوبَ أحلامي وأنسى
أنَّكِ امرأةٌ تمزِّقُ كلَّ ما في الليلِ يُنْسَجْ
في الليلِ تعوي الروحُ
تعوي في عراءِ قصيدتي:
أنا مَنْ تزَوَّجَ قهرَهُ أنا منْ تزَوَّجْ
في الليلِ أمشي نحوَ شُرفتِكِ البعيدةِ
كي أرى درباً تغطى بالرسائِلِ
أو أرى حقلاً بأحزاني تسَيَّجْ
في الليلِ أطلِقُ أمنياتي جدولاً
يجثُو على قدمَيْكِ
يقطِفُ منهُما صُبْحاً وعَوسَجْ
في الليلِ
كمْ في الليلِ
أدخلُ في رؤاكِ
وفي مَداكِ
فتختفي حولي خُطاكِ
ولا أرى
لخُطايَ مَخرَجْ..
10/1997
* * *















V- غرفة للكتابة

عقارب ساعتي


الآنَ نِصفُ الليل
حبري هادئٌ جداً
وأوراقي أمامي عتْبَةٌ بيضاء,
قدْ قاربْتِ بابَ قصيدتي
هذي خُطاكِ الآنَ تعبرُ شارعَ الذكرى
وعمَّا دمعتيْن
ستصعدينَ بما ملكْتِ مِنَ الحمامِ
إلى فضاءِ فجيعتي

عينايَ منذُ الحُبِّ تنتظرانِ وجهَكِ.
ساعتي صدِئَتْ،
عقاربُها تدسُّ الوقتَ سُمّاً تحتَ جلدِ يدِي،
وأعقابُ السجائرِ
كوَّمَتْ عمري رماداً
في زوايا وحدتي...

8/1998

* * *



وحيد


العناكبُ نائمةٌ في رسائلِ أهلي
وهذا المكانُ بعيدٌ.. بعيدْ
أصدقائي يموتونَ
مِنْ شِدَّةِ الغدرِ،
والعمرُ يتلو مواجعَهُ
صدَأً فوقَ طاولةٍ مِنْ حديدْ..

يا امرأةْ
كلُّ حزنٍ حبيبي
كل حزنٍ يشاركُني في نبيذي
يساهرُني في فِراشِ المساء،
ولكنّني
كلّما جئْتِني
أتذكَّرُ أنّي وحيدْ..

7/1998

* * *



البشارة



قالتْ: لنا قمرٌ وراءَ هضابِ هذا الليل،
فاتركني على عرشِ القصيدةِ نحلةً
واملأ بأحرفِكَ الجِرارْ
واتركْ حنيني تحتَ صفصافِ اغترابِكَ
ساجداً، لابُدَّ أن يأتي نهارْ
واتركْ ذراعَكَ للتي جاءَتْ لتنسجَ
منْ ضياعِكَ قارباً يمشي بشاعرِهِ على
نهرٍ يُسيِّجُهُ البَنفْسجُ نحوَ آخرةِ الحصارْ
إنَّ التي ربَّتْ ضفائرَها بحِضنِكَ
شيَّدَتْ في حِضْنِها
لرُؤاكَ دارْ..

9/1997
* * *



إلى آخر البحر



نعمْ.. مِنْ هنا يا مَنَالُ
تمرُّ الوحوشُ إلى غرفتي في المساءْ
تحاصرني حين أبدأ رسمَكِ زنبقةً في براري البكاءْ


هنا ليسَ من حقِّنا أنْ نُحِبَّ
ولا أنْ نؤاخِيَ أقمارَنا في سهولِ البلادْ
هنا ليَ منْ حقِّ عينِكِ أن تتكحَّلَ إلاّ بهذا الرّمادْ


..سندخلُ كهفَ المواجعِ عند الغيابْ
لنشعلَ ذاكرةَ الحبِّ بينَ يديْنا
ونقطعَ أشجارَنا ثمَّ نحرقُها
علَّنا نحتمي من عويلِ الذئابْ


نعمْ.. سوفَ نعبرُ فجرَ الورودِ القصيرِ القصيرْ
ولكنّنا سوفَ نبكي إلى آخرِ البحرِ
نبكي إلى آخرِ العمرِ
حينَ سنأوي مساءً إلى حُلْمِنا في السريرْ..


* * *



جدار الدمع


توقَّفْتُ عندَ البُحيْرةِ هذا الصباح
فشاهدتُ بالقُرْبِ زوجَ البَجَعْ
يُقبِّلُ في الماءِ ظلِّي لأنّي
تذكَّرْتُ صدرَكِ بالأمسِ كيفَ الْتَمَعْ

دخلتُ إلى حانتي في المساءْ
وحينَ رأيتُ الإلهَ الحزينَ يشاركُني في القدَحْ
تذكّرتُ وجهَكِ
بالأمسِ كانَ يقطِّرُ حولي نبيذَ الفرَحْ

وما بينَ ذاكَ الصباحِ وهذا المساء
تركتُ انتظاري فَراشاً يُحوِّمُ حولَ الدفاتِرْ
يزَوِّجُ ناياً يراعاً
ويبني جداراً من الدمع بينَ فتاةٍ وشاعرْ..

11/1997

* * *



رسائل يومية



لأنّكِ قُلتِ:
سأبعثُ في كلِّ يومٍ إليكَ رسالةْ..

تركتُكِ بينَ يديْكِ
وأعطيْتُ للإنتظارِ يَدَيَّا..


وها مَرَّ عشرونَ شهراً عليكِ
وما مَرَّ يومٌ علَيَّا..


16/4/1997

* * *




على حافة الجسر



هواءُ الرصيفِ يطاردُني ورَقاً يابساً في الخريفْ.
شوارعُ هذي المدينةِ
تعرفُ ماذا يريدُ الغريبُ إذا كانَ يمشي إلى الجسرِ
أو كانَ يمشي إلى البحرِ تحتَ الرَّذاذِ الخفيفْ.
أحبُّكِ أكثرَ حينَ يطولُ جلوسي وحيداً على حافَّةِ الجسرِ والذكرياتِ
أعلِّقُ سربَ حمامٍ على غيمةٍ في التلالِ البعيدةْ
لأبصِرَ كيفَ تصيرُ رسائِلُنا
مطراً جارِحاً في مساءٍ مخيفْ
أعلِّقُ قلبي على وردةٍ في الحقولِ الشريدةْ
لأبصرَ كيفَ تصيرُ القصيدةُ ما بيننا
نحلةً تشتهيكِ لهذا السكونِ الشفِيفْ.
أخافُ الذهابَ إليكِ
لِئَلاّ يقاطعَ ظلِّي ظلالَ نساءٍ يعطِّرْنَ حولي هواءَ الرصيفْ
هواءُ الرصيفِ يطاردُني ورقاً دامياً في الخريفْ
وعمّا قريبٍ يغيبُ الخريفُ
يغيبُ الخريفُ يغيبُ الخريفْ
ليغسِلَ خِنجَرَهُ مِنْ دَمِ الأمنياتْ
أحبُّكِ أكثرَ حينَ يطولُ جلوسي وحيداً
على حافَّةِ الجسرِ والذكرياتْ..


* * *



الصعود

الذي بيننا يستحِقُّ المزيدَ من العمر
-هل تسمعينْ؟-
لأنَّ النخيلَ الذي نتدارَى بظلِّهِ
أطولُ منْ صبْرِ أعدائِنا.
ولأنَّ الصهيلَ الذي نتبادَلُهُ في السريرِ
يُعَفِّرُ أيامَهُمْ بالهزيمةْ
ولأنَّ الهديلَ الذي يتهادى
على شرُفاتِ صباحاتِنا
لا يُطالُ بما أطلقوا منْ رماحٍ هزيلةْ..

والذي بيننا يستحِقُّ المزيدَ من الخمر
-هل تسمعينْ؟-
لأنَّ الدّوالي التي تتدلَّى على قدحَيْنِ بصدرِكِ
تُغري شفاهي بنخْبٍ جديدْ
ولأن الليالي
إذا لمْ يُدَفِّئْ أسِرَّتَها أرجوانُ النبيذِ
ستُلقي بأحلامِنا في صَحارى الجليدْ
ولأنّ أبي كانَ يوصي بَنِيهِ:
اقْرَبُوا العاشقاتِ وأنتمْ سُكارى
أقيموا بمحرابِ أجسادِهِنَّ الحنينَ
سيُدخِلْنَكُمْ جنَّةً لمْ يطأها شهيدْ..

والذي بيننا يستحِقُّ المزيدَ من الحِبر
-هل تسمعينْ؟-
لأن الذي بيننَا يستحِقُّ المزيدَ من العمرِ والخمرِ والشِّعر
-هل تسمعينْ؟-
وإنْ كنتِ حقّاً سمعتِ،
لماذا تُعِدِّينَ هذي السماء
لماذا تُغطِّينَني بالبُكاء
ثُمّ –يا ربَّتِي–
تصعدينْ؟..


10/1998

* * *


















VI- الردهة بمقاعدها الخالية











الرباعيّات الستّ
كما وردتْ في مُعجمِ الورد




ملاحظة : جاءتْ عناوين الرباعيات بحسبِ الترتيبِ الهجائيّ لأسماءِ الورودِ الستّ الذابلة.

I. آرُومْ


فَقَطِ اخلَعِي في الليلِ شالَكِ
وانشُرِيهِ على مدينتِنَا المريضَةِ
هدِّئي رَوْعَ الغيومِ فَقَطْ
وغيبِي بعدَهَا ما شِئْتِ.

والقُرآنِ
والقُرآنِ لنْ نَتْلُوكِ ثانيةً
ولنْ نُصْغِي لأمْرِ الحِبْرِ في سُوَرِ الحنينِ
الآنَ أقْنَعَنَا عنادُكِ.

حسْبُ جنَّتِنا ربيعاً
أنْ شمَمْتِ -ولوْ قليلاً- وردَها،
حسْبُ المدينةِ رِقَّةً
أنْ لامَسَتْ قدَمَيْكِ لَمَّا زُرْتِنَا.

فَقَطِ اخلَعِي قبلَ الذِّهَابِ بياضَ شالِكِ
وانشُرِيهِ على أغانِينَا الأخيرةِ.
حسْبُنا إنْ غِبْتِ
إنَّكِ أنتِ عنَّا نحنُ غِبْتِ..



II. أنْتِرْيُومْ


مُدِّي يَدِيْ لأجُسَّ نبضَكِ في عرُوقي
ربَّما ما زالَ حيّاً بينَنا حُلْمي المريض،
أريدُ أنْ أصغِي إلى أنفاسِهِ لأُطَمْئِنَ الشُّعرَاءَ
أنِّي ما تزَالُ الآنَ مُعجزَتي على قَيْدِ القصيدةِ.

كمْ أهابُ الحِبْرَ
ليسَ فقَطْ مَخافَةَ أنْ يُلَطِّخَ بالحنينِ قميصَ أيّامي
وبَلْ أيضاً لأنَّهُ لا يَجِفُّ إذا ارتدَى ورَقَ الغيابْ.

حُلمي مريضٌ
أنتِ عندَ البابِ حاملةٌ بلا تعَبٍ حقيبةَ أمسِنَا
انتظِرِي قليلاً وانظُرِي في الأمرِ
لا مِنْ أجلِ هذا الحُلمِ، لكنْ ريْثَما يتوقَّفُ الآنَ المطَرْ.

مازالَ لي في الوقتِ بعضُ النَبْضِ
مُدِّي لي عُروقَكِ في يدِيْ
وضَعي الشِّفَاهَ على الشِّفَاهِ
أريدُ أنْ أُصغي إلى أنْفاسِنَا
كيْ أطْمَئِنَّ بأنَّنِي مازِلْتُ حُلماً.



III. أُورْكِيدَا


كمْ أنتِ غاضِبَةٌ إذَنْ
كمْ أنتِ غاضِبَةٌ عَلَيَّ.
نَعَمْ.. وإلاَّ كيفَ أفهَمُ طعمَ ماءِ البحرِ
أوْ سَبَبِ العصافيرِ التي هَجَرَتْ بلادي
والينابيعِ التي جَفَّتْ بمنديلي الصغيرِ..

صباحَ غَدٍ سأخرُجُ كي أُبَرِّرَ للنخيلِ شُحوبَ أوراقي
وأخلِقَ للحمامَةِ أكذَبَ الأعذارِ إقناعاً
لعَلَّ الدمْعَ يغفِرُ لي رسائلَكِ التي انْقَطَعَتْ.

فَقَطْ قولي متَى يرضَى خريفُ اللهِ عنْ شجري
وسوفَ أظَلُّ مهما ظَلَّتِ الأمطارُ منتظِراً ربيعَ رِضَاكِ،
يا امرأتي اصفَحِي عنْ هذِهِ الأرضِ التي
واللهِ لمْ تتعمَّدِ الدورانَ في عكسِ اتجاهِكِ
إنَّما رغِبَتْ بأنْ تَصِلِي سريعاً.

أنتِ غاضِبَةُ عليَّ إذَنْ
وإلاّ كيفَ صدَّقْتِ اعترافَ الحِبْرِ
أنَّ أولئكَ الشعراءَ شقُّوا البَحرَ
وانتصَرُوا.. علَيّْ.


IV. إيريس


ما إنْ ذَرَفْتُكِ فوقَ مائدةِ القصيدةِ تلكَ
حتّى ازدَادَ طعمُ الإنتظارِ مُلُوحَةً وازددْتُ جوعاً،
كنتُ أكتبُ عنْ رغيفٍ
لمْ نذُقْهُ سوِيَّةً مُذْ شَتَّ قمحُكِ عنْ حصادي.

كانَ ليْلاً بارداً
كيَدِي التي صافحْتِها لمَّا التقيْنَا عندَ أوَّلِ سُنْبُلَةْ.
كانَ البُخَارُ يَفِرُّ منْ صَحْنِ الحنينِ الحَارِ نحوَ زُجَاجِ نافذتي
لأكتُبَ أوْ لأرسِمَ للنّجَاةِ بإصبِعِ الحُمَّى شِفاءَكِ
أوْ شِفاهَكِ.



منْذُ جُوعٍ لمْ أشارِكْكِ الطّعامَ,
تُرَاكِ مثلي الآنَ جائعةٌ هنالِكَ؟.
كنتُ أكتُبُ عنْ رغيفٍ ضائعٍ لمَّا
ذرفتُكِ فوقَ مائدةِ القصيدةِ،

هلْ تُرَاكِ ذَرَفْتِنِي أيضاً هنالِكَ بعدَ حرْبٍ فرَّقَتْنا,
أمْ تُرَاكِ شبِعْتِ حُبّاً بعدَ آخِرِ قُبْلَةٍ
أوْ قُنْبُلَةْ..



V. تُولِيبْ


لوْ لمْ أخُنْكِ الآنَ
ما كنْتُ اقتنَعْتُ بأنَّكِ الأحلى على مَرِّ النّساءِ
ولا ظلَمْتُ بقسوَةِ الأنثى غريمَتَكِ الحزينةَ.
كانَ يلزمُها المزيدَ مِنَ التّمَنُّعِ
مُذْ همَمْتُ بنَزْعِ شَوكِكِ عنْ أصابِعِها وذاكرتي.

لَوَ انَّكِ كنْتِ تمتلكينَ طِيبَتَها
لمَا أوْدَعْتِني في النهرِ واثقةً بأنِّي سوفَ تنْشُلُني الوصيفةُ
ثُمَّ تُرجِعُني إليكِ غداً
لأرضَعَ منْ رؤاكِ حليبَ أغنيتي.

ولَوْ كانتْ بخُبْثِكِ
كانَتِ انْتَحلَتْكِ منذُ رأتْكِ نائمةً بمنديلي
وقصَّتْ سُوطَ قسوتِكِ الذي خلَّفْتِهِ بيَدِيْ
وكانَتْ أقنَعَتْ نَحلِي بوردَتِها.

دَعِي لِي الآنَ طيبَتَها وخُبْثَكِ جانباً
وتأكَّدي، لوْ لمْ أخُنْكِ مَعَ النّجومِ
لَمَا اقتَنَعْتُ بأنَّكِ الأعلى على مَرِّ السماءْ.



VI. لِيْلْيُومْ


نحتاجُ كيْ نَنْساكِ نافِذةً فَقَطْ.
إنَّ الذي حقّاً يعذِّبُنا هُوَ انَّكِ لمْ تُسِيئِي سَرْمَداً أبَداً إلينا
غيرَ أنَّ رياحَكِ اختارَتْ غيابَكِ منْ مَهَبٍّ
لا يُنَاسِبُ دَرْفَتَيْ أحزانِنَا أبَداً

سنوصِدُ جيِّداً دمَنَا كمَا أوْصَيْتِ قبلَ الباب،
فابتعدي إلى ما بعدِ رعْشَتِنا لنُشعِلَ منْ خُطاكِ مدَافِئَ الذّكرى
ونأكُلَ كِسْرَةَ الفَرَحِ الّتِي خلفْتِها في القلْبِ
بعدَ فَوَاتِ خُبْزِ العُمْر..

نافِذَةٌ فقَطْ.
وَلَوِ استطَعْنا الآنَ أنْ ننساكِ لنْ ننْسى غيابَكِ،
لنْ نرَاكِ ولَوِ مَرَرْتِ بشارِعِ الكلماتِ ثانيَةً
ولَوْ فاحَتْ ثيابُكِ في المدينةِ صُدْفَةً.. سنَرَى غيابَكِ.


إنَّنَا نحتاجُ نافذةً لنوصِدَها
لأنَّ رِيَاحَكِ اختارَتْ غيابَكِ مِنْ مَهَبٍّ
لا يناسِبُ دَرْفَتَيْ أحزَانِنا أبداً.
وأمَّا الأغنياتُ ولَوْ أطَالَتْ في الذّبُولِ
فلنْ تُسِيءَ إلى قواميسَ الورودِ
لأنّنا نحتاجُ أغنِيَةً لنقْطِفَها .. وننْساها
فَقَطْ..


17/4/2000

* * *




أراكِ أراكِ.. ولو من بعيـد



ممرُّكِ يُعتِمُ شيئاً فشيئاً
وما مِنْ حنينٍ لصمتِ المدينةِ
غيرُ رَذَاذِكِ يهمي على الشرُفاتِ التي اغرَورقَتْ بغيابِكِ.
أرسمُ في دفتري الآنَ نافذةً لأطلَّ عليكِ
فأبصرُ -إذْ أبصرُ- امرأةً فوقَ مَقعَدِ حُلْمي
تَحيكُ قميصَ العذابِ على نَوْلِ ذاكرتي.
لمْ أكُنْ راغباً بالخروجِ إلى الشِّعرِ
لكنْ عبورُكِ بالقربِ منْ عتْبَتي كانَ يكفي
لتَمتلِئَ الأرضُ بالشعراءِ
وكيْ يصبِحَ الشعراءُ أشَدَّ حساسِيَةً منْ جَنَاحِ الفَرَاشَةِ.
.. كُنَّا التقيْنا على البابِ
آنَ ابتدأتِ دخولَكِ في غُربَتِي
وابتدأتُ خروجيَ منها
هناكَ سألتُكِ: ماذا لَوِ انهمَرَ السوسَنُ الآنَ؟
قلتِ: سأعطيكَ شالي على غيْمةٍ
وأحبُّكَ أغزَرَ ممّا أحبَّتْكَ أمُّكَ.
..ثُمَّ ارتديْتُ غيومَكِ
فانهمَرَ العُمرُ -عمري- على كتِفَيْكِ..

وأبصرُ -إذْ أبصِرُ- الآنَ:
وجهَكِ يطفُو على قدَحي
وروائحَ صدرِكِ تملأُ بالنّحلِ رَدهةَ ذاكرتي،
ولأنَّ دمي ولَدٌ ثَمِلٌ
وحنيني يلسَعُني
ولأنَّ سريريَ يبكي بزاويَةِ البيتِ
والليلُ يبلُغُ فِيَّ أشُدَّهُ
أعترفُ الآنَ:
كنتُ صغيراً على الحُبِّ يومَ دخلْتُ ممَرَّكِ
كنتُ كذبْتُ على خَطوَتي وعليْكِ.
ويومَ خلعْتِ قميصَكِ عنْ عَرَقٍ يتكَثَّفُ فوقَ مرايا النّحاسِ
ويومَ تنفَّسْتُ موجَ لهاثِكِ
فُوجِئْتُ أنَّ دمي لا يُجِيدُ السِّباحَةَ
لوَّحْتُ للرّايتَيْنِ على ساحِلِ الجَمْرِ
فارتفَعَ المَوْجُ أكثرَ أكثرَ
ثمَّ تشبَّثْتُ خوفاً بحمَّالَةِ الصدرِ
فانقطَعَتْ
-كانَ ثغري صغيراً على حَلْمَتَيْكِ-
سقطتُ إلى الخَصْرِ
قبَّلْتُ لؤلؤةَ السُرَّةِ المستديرةَ
ناديْتُ باسمِكِ
-لمْ ترفعيني-
تساقطتُ عَتْماً فعَتْماً إلى العُمقِ
حيثُ وصلْتُ إلى زورقٍ غارِقٍ منْ مِئاتِ الشموسِ
دخلْتُ
هناكَ وجدتُ كنوزَ القراصنَةِ القُدماءِ
وجُمجمةً يتخاطَفُها السمَكُ المتوحِّشُ
أمسكْتُها فرأيتُ على العَظْمِ نقْشاً لصاحبِها
فقرأتُ الحروفَ
وإذْ بِيَ أقرأُ إسمي..


وأكتُبُ -إذْ أكتُبُ- الآن:
إنَّ مَمَرَّكِ يُعتِمُ شيئاً فشيئاً
وما مِنْ حنينٍ لصمتِ المدينةِ
غيرُ رَذَاذِكِ يهمي على الشرُفاتِ التي اغْرَورقَتْ بغيابِكِ.
طاولتي الأرضُ
تمتدُّ حولي بكلِّ اتجاهٍ،
سأعبُرُ هذي الممرَّاتِ سيْراً على قلَمي
والممرَّاتُ هذي تضيقُ.. تضيقُ وتُعتِمُ
والأغنياتُ تَرِقُّ.. تَرِقُّ إلى أنْ أراكِ -ولَوْ مِنْ بعيدٍ-
..غمامةُ تشرينَ تفتحُ جَفْنَ المدينةِ
كيْ تغسِلَ الطرُقاتِ مِنَ العابرينْ،
دُخَانُ المدافئِ يرسمُ في الأفْقِ
سمراءَ جالسةً فوقَ مَقعدِ حُلْمي
تحيكُ قميصَ العذابِ على نَوْلِ ذاكرتي.
فاضَتِ الطرُقاتِ بأغنيتي وبكأسي
ولمْ أجِدِ امرأةً لأخونَكِ -حتّى ولَوْ في القصيدةِ-
..وجهُكِ يطفو على خمرتي،
لم أكنْ راغباً بالخروجِ إلى الشِّعرِ
لكنْ عبورُكِ بالقُربِ منْ عتْبَتي
كانَ يكفي لتمتلئَ الأرضُ بالشعراء
وكيْ يصبحَ الشعراء
أشَدَّ شفافِيَةً مِنْ رَذَاذِ غيابِكْ.


* * *



ويشير لامرأة بعيدة


يمشي وحيداً فوقَ أرصفةِ الحنينْ
يُلقي بآهتِهِ كما يُلقي اللِّفَافَةَ
ثُمّ ينظرُ حولَهُ
فيراكِ في أعلى القصيدةِ..

لمْ يقُلْ شيئاً مساءَ هَجَرْتِهِ
بل راحَ يُخفي في هدوءٍ ما تبقَّى منكِ:
خمسَ رسائلٍ, وثلاثَ شَعْرَاتٍ على طرَفِ الوسادةِ,
حُمْرَةً تغفو على فنْجانِ قهوتِكِ الأخيرِ,
ودمعَهُ..
لكنَّ عِطرَكِ ظلَّ يُشعِلُ رَدهَةَ الذّكرى
ويوجعُ ليلَ شاعرِنا.
سريرُكِ فارغٌ جداً,
وأمّا الخمرُ فلْتَملأْ كمَا شاءَتْ كؤوسَ الصمتِ
ولْتَتْرُكْ غيابَكِ جالساً بالقربِ مِنَّا
كيْ ينادِمَ حزنَنا..

يمشي وحيداً
حامِلاً بحقيبةِ الأحلامِ خيبتَهُ إلى الميناءِ
لا يلْوي على حُبٍّ
يُطِلُّ من الخريفِ على شتاءٍ قادمٍ
فيخافُ أنْ تبلَّلَ الأوراقُ إنْ شاءَ الكتابةَ عن ربيعٍ آفِلٍ
أنا لنْ أغنِّي مرَّةً أخرى, يقولُ,
ولنْ أتيحَ لِمَا تبقَّى من حياتي
أنْ يُبَرْعِمَ فوقَ غصنِ حبيبةٍ
ما حطَّ فوقَهُ طائرٌ إلاَّ وحطَّمَهُ
..إلى الميناءِ يمشي وحدَه
عنْ زورقِ النّسيانِ يسألُ دامعاً
فيجيبُهُ الشُّرطيُّ : هاهوَ واقفٌ
ويشيرُ لامرأةٍ بعيدةْ..


أمشي وحيداً,
صرتِ أجملَ بعدَما غادَرْتِنِي
أمَّا وعودُكِ لمْ تغادِرْ بعدُ صندوقَ الرسائلِ
..كمْ نسيتُكِ لحظةً في النومِ
فاستيقظتُ مبتلاًّ بذاكرةِ الوسادةِ..
ربَّما ليْثٌ جديدٌ يستريحُ الآنَ
فوقَ أريكتَيْ فُلٍّ يؤثِّثُ فجرَ صدرِكِ,
ربَّما يبكي لأنَّهُ لا يصدِّقُ
أنَّكِ الأنثى التي ترعى رؤاهُ الآنَ فوقَ مُروجِها,
أو ربَّما ما زالَ يغسلُ ما مضى منْ عُمرِهِ
في نبعِ خمرٍ دافقٍ ما بينَ ساقَيْ لَبْوَةٍ
..لكنَّ شاعرَكِ الذي
يمشي وحيداً تحتَ عَتْمِ الأغنياتِ
فإنَّهُ ما زالَ يُطعِمُ
ما تركتِ من السنونو -في فضاءِ شقائِهِ- قمحَ النّدَمْ.

يمشي وحيداً فوقَ أرصفةِ الحنينِ
وتحتَ عتمِ الأغنياتْ.
قدْ ترجعينَ إليْهِ
منْ أقصى الغيابِ إذا أردتِ
وإنْ أرادَ فمِنْ أقاصي الذّكرياتْ.
قد ترجعينَ إليهِ ذاتَ أنوثةٍ
سمراءَ أطرتْها عذارى المَشْرِقَيْنِ وطوَّبَتْها الآلهاتْ.
قدْ ترجعينَ إليهِ
كيْ
يُلقي بماضيهِ كما يُلقي الِّلفَافَةَ
ثُمَّ ينظرُ حولَهُ
فيراكِ في قاعِ القصيدةِ
مَيْتَةً كالأمنياتْ..



2/4/1999

* * *





غيابُكِ شيخٌ كبير



تألّمتُ يومَ اصطدمْتُ بِهِ فجأةً في المدينة‏ِِ
كان طويلاً ثقيلاً‏
غيابُكِ هذا..‏
فأدخلتُهُ منزلَ الليلِ‏
قلتُ أنادِمُهُ وَحدَتي‏
وأعاتبُهُ ريثما‏
ريثما ترجعينْ.‏


..وصِرنَا صديقين‏
قلتُ لهُ مرّةً: حينما ترجِعُ امرأتي سوفَ أبكي غيابَكَ.‏
قالَ: متى سوفَ ترجِعُ‏؟
قلتُ: إذا مِتَّ‏
قال: أنا لا أموتُ‏
ولكنّني حينَ أفرَغُ منكَ‏
ستمتلئُ الأرضُ بي‏..


غيابُكِ شيخٌ كبيرٌ‏
عليَّ إذنْ‏
-وأنا أكنُسُ العمرَ مِنْ خلفِهِ وَرَقاً يابساً-‏
أنْ أُداري الزّجاجَ المُكسَّرَ بينَ الأغاني‏
وأدعو لَهُ‏
-كاذبَ النَّبَرَاتِ-‏
بطولِ البقاءْ.‏


لغيابِكِ عاداتُهُ هوَ أيضاً:‏
ففي كلِّ صُبحٍ يُعِدُّ فطوراً لشخصين‏
نجلسُ مقتربَيْن‏
فآكُلُ منْ حِصّتي ما استطعتُ‏
وتأكلُني الحِصّةُ الثانيةْ.‏
..وفي كلِّ ليلٍ أراهُ على الطاولةْ‏
يُقلِّبُ‏ -وهْوَ يُرَقْرِقُ نظَّارَةَ الذكرياتِ- كتابَ الحنينْ.‏
ويوماً تجرأتُ أنْ أسألَهْ:‏
أمَا آنَ لي ولَكَ الآنَ يا سيّدي‏
أنْ نُصدِّقَ أنّ رسائلَنا لمْ تَصِلْ؟‏
فاستدارَ إلى المزهريَّة. قال:‏
علينا إذنْ أنْ نُعيدَ كتابَتَها.‏
ثُمَّ قامَ ليفتحَ نافذتي، وأطلَّ على الريح،‏
قالَ: ولو كنتَ فَظَّ القصيدةِ لانْفَضَّ من حولِكَ الوردُ..‏
..ألقى لِفَافَتَهُ وتنَهَّدَ:‏
وجهُكِ أقربُ منِّي إلى كلماتي‏
وأقربُ منْ كلماتي إلى شَفَتيّْ‏
رسائلُنا وصلَتْ‏
وصلَتْ كلُّها‏
كلُّها يا صديقي.‏




عرَفْتُهُ مُذْ كانَ طفلاً صغيراً‏
وكنتُ اصطدَمْتُ بِهِ عندَ بابِ المحطَّة‏ِِ
لم يَرَهُ أحَدٌ غيرُنا‏
كانَ وجهُكِ مختلفاً‏
ويداكِ تمُدَّانِ لي سبباً آخَرا للبكاءْ.‏
تذكَّرتُ أنّكِ كنتِ‏
نسيتِ سِوَارَكِ في مطبخي‏
سبباً آخَرا للرجوع.‏
ولكنّني لمْ أجِدْ سبباً واحداً‏
لابتسامَتِنا‏
وهْيَ تصعَدُ سُلَّمَ رَوْعي‏
وتوصِدُ بابَ السّلامِ الأخيرْ.‏
ذهبْتِ‏
ذهبْتِ إذنْ أنتِ‏
وانْفَضَّ منْ حولِيَ الشعراءُ‏
ليبتَكِروا أغنياتِ الغيابْ.‏



..همَمْتُ بِحَمْلِ غيابِكِ‏
لمْ أستَطِع‏ْْ
فقبَضتُ على يدِهِ وعبرتُ بِهِ شارعَ الريح‏
أدخلْتُهُ منزلَ الليل‏
أضْجعْتُهُ في سريري‏
وقلتُ: أعانِقُهُ ريثما‏
ريثما‏
ريثما..


6 / 1 / 000 م

* * *





















VII- البـاب





بابٌ واقفٌ بانتظارِ امرأة



صَبَاحي كلَيْلي
فنافذتي دائماً مُغلَقَةْ
أدَخِّنُ حلمي سيجارةً تِلوَ أخرى
وأعبرُ وقتَ انتظاريَ مِشنَقَةً مِشنَقَةْ.
يدايَ على وَرَقي قلَمَانْ
وفي ساعَتِي عقْرَبَانْ
يدُسَّانِ سُمَّهُما تحتَ جلدي
فيحيا حنينيَ أكثرَ أكثرْ
وتنمو القصيدةُ أكبرَ أكبرْ
وتذبُلُ في غُصنِها أحرُفُ الزنبَقَةْ

أعُدُّ الذي يتساقطُ من شَعرِ رأسي على المِنضَدَةْ
فأعرفُ كمْ صارَ عمري
وأعرفُ يا امرأتي
كمْ تبقَّى من الوقتِ كي تفتحي عُزلتي الموصَدَةْ


تأخَّرْتِ عنّي كثيراً تأخَّرْتِ عنّي,
وبابي
حزيناً يُطِلُّ على الغرباء
يُقشِّرُ عنْ عُرْيِهِ
طِلاءَ الوقوفِ الطويلِ على شارِعِ الإنتظارْ
وبابي
يُطِلُّ على كلِّ ماضٍ
ويحفظُ كلَّ الوجوهِ الغريبةِ
يعرِفُ قصدَ الخُطى العابِرَةْ
وبابي يشُمُّ جميعَ الروائحِ
يسمعُ كلَّ الأحاديثِ بابي
ويحجُبُ عنْ رؤيتي الأعيُنَ الساخِرَةْ
وبابي يُطِلُّ على كُلِّ آتٍ
ولكنَّهُ..
منذُ خمسينَ عاصفةٍ
مُذْ توقَّفَ في أوَّلِ البيتِ
لمْ يتَنَحَّ لغيرِ صباحاتِكِ الماطِرَةْ

تغيَّرتِ عنِّي وعنْكِ كثيراً
وكنتِ تُصرِّينَ أنَّ شفاهَكِ طيرٌ
وأنَّ شفاهي فَنَنْ
وكنتِ تُصرِّينَ أنَّ يديْكِ اغترابٌ
وأنَّ جروحي وَطَنْ
فكيفَ تأخَّرتِ عنِّي وأنتِ الزَّمَنْ؟
وكيفَ تغيَّرتِ عنِّي
وأنتِ الوَثَنْ؟

صباحي كلَيْلِي
ونافذتي مُغلقَةْ
دموعي خيوطُ حريرٍ
تُصيِّرُ منْ غُرفتي شرنَقَةْ
ولكنَّ قاطِفَتي لا تجيء,
فكيفَ ستنسِجُ منديلَهَا؟
كيفَ تلبِسُ
قُمصانَها المُشرِقَةْ؟

تركتُ على مِقبَضِ البابِ سَمعي
وهذي عيوني
تُرتِّبُ زِنْزَانَتِي بهدوءٍ يشابِهُ
وقْعَ
خُطى
الساعَةِ
العاشِرَةْ..
أريدُ الخروجَ قليلاً
لكيْ أتأكَّدَ أنَّ الظهيرَةَ بيضاءَ والبحرَ أزرَقَ
لكنَّ سجَّانَتِي قَدْ تجيء
وإن لمْ تجِدْني
ستوصدُ أبوابَ حُلْمي عليَّ
وتتركُ لي
قُبْلَةً.. فاتِرَةْ..

سأفتحُ نافذتي بعدَ صمتٍ
لأسمعَ نبضَ حذائِكِ فوقَ رصيفِ المدينةْ
فأعلمَ أنِّيَ أنَّةُ تلكَ الحِجارَةْ

سأفتحُ نافذتي بعدَ حزنٍ
لأبصرَ جِسمَكِ يشعلُ في الليلِ دربَ السفينةْ
فأُعْلِنَ أنِّيَ حارسُ تلكَ المنارَةْ

سأفتحُ نافذتي بعدَ يأسٍ
لأرمي إلى البحرِ ذاكرةَ الإنتظارِ الحزينةْ
وأكسرَ عنْ عُزلةِ الروحِ هذي المحارَةْ

سأفتحُ نافذتي..
ربّما أخَّرَتْكِ دقائقُ لِبْسٍ وزينةْ
ربّما ثَمَّ بيتٌ يشابهُ بيتيَ في غيرِ حارَةْ!.

تعالَيْ
تعالَيْ لأنسَاكِ
كيفَ أصدِّقُ بُعدَ المسافةِ بيني وبينَ نَدَاكِ
وذاكرتي لا تجِفُّ؟
وكيفَ أضيءُ شموعي لغيرِكِ
والقلبُ لمّا يزلْ في مهبِّكِ؟
كيفَ سأُفْشي لغيرِكِ وقتي
ووجهُكِ صَوتي؟
وكيف سأُغْري الفَرَاشَ بشُرفَةِ روحي
ووردُكِ يحتَلُّ شُرفَاتِ موْتي؟

..أرى الشمسَ تختبِئُ الآنَ
بينَ يدِي وعقارِبِ ساعتِها,
أدركُ الآنَ أنكِ لنْ تحضُرِي
وسأقسمُ لليلِ أنَّكِ لمْ تحضُرِي..
فكيفَ يُصَدِّقُني الليلُ
كيفَ وقدْ شاهَدَتْكِ الكواكبُ
حينَ دخلْتِ
إلى دفتري؟؟.


14 /12 / 1998

* * *




اعبُري الجسرَ ثُمَّ اكسرِيه



إذا مَرَّ عُمري عليكِ ولمْ تُبصِرِيهِ
فلنْ أترَدَّدَ في الموتِ.. لنْ أترَدَّدَ
منْ أيِّ نهرٍ تُرى تَدخُلينَ على الليلِ؟
هَيَّا أخرُجي الآنَ مِنْ كلِمَاتي
لأصْفِقَ خلفَكِ حِبرِي, وأغفو..


وإنْ كنتِ لا ترغبينَ بنومٍ
فما ذنبُ هذا الحنينِ لكيْ توقِظِيهِ طَوَالَ الأنين.
اخرُجي قلتُ, هَيَّا اخرُجي الآنَ مِنْ ذكرياتي
اعبُري الجِسرَ ثُمَّ اكسِرِيهِ
ولا تَدَعِي قارِباً واحِداً
راسِياً في ضفافِ حياتي..
وإنْ مَرَّ عمري عليكِ
فلا تُبصِرِيهِ
ولا تُبصِرِيهِ
وهَيَّا اخرُجي.


13 /5 / 2000

* * *




بانتظارِ الوقت



لا عِلْمَ لِي غيرَ الذي علَّمْتِنِيهِ,
لذا سأطْبِقُ دفتري هذا,
وأبكي..
دفتري هذا,
وأبكي..
دفتري هذا,
وأينَ تركتِ
أطفالَ القصيدةِ بعدما أقْفَلْتِ مدرسةَ الغِنَاءِ؟
كما رأيتُكِ منذُ حزنٍ تَخرُجينَ مِنَ الرُّوَاقِ -رُوَاقِ أمنِيَتي-
أراكِ الآنَ أيضاً تَخرُجينَ مِنَ الرُّوَاقِ -رُوَاقِ أغنِيَتي-
وأبكي..
دفتري منذ افترقْنَا صارَ غُرفَتَنا الوحيدةَ.
كانَ غُرفَتَنا
أنا لا عِلْمَ لي غيرَ الذي علَّمْتِنِيهِ
فعلِّمِيني -قبلَ أنْ تَدَعِي القصيدةَ-
علِّمِيني كيفَ أُطْبِقُ دفتري.
إنِّي أرَى الكلماتِ تَكسِرُ نفسَهَا لَوزاً على عتَبَاتِ غُربَتِنا
أرَانَا لا نرى شَجَراً ولا حَجَراً نُخبِّئُ خلفَهُ أحزانَنا,
لِنَضَعْ حقائبَنا إذنْ فوقْ الرصيفِ الرَّطْبِ
ولْنَجلِسْ عليها بانتظارِ الوقتِ
إذْ لا بُدَّ مِنْ نَدَمٍ ومِنْ دمعٍ يُرِيحُ الذكرياتِ بنا, ومِنَّا.
شارِكيني في البُكاءِ وَلَوْ لِثَانِيَةٍ
فلنْ يبكي علينا -صدِّقيني.. صدِّقيني- غيرُنَا..


26 /5 / 2000
* * *





















VIII- منزل مزدحم بالغائبين

إلى هَنَاء... أمّي







في منزلٍ مِن غرفتينِ ورَدهةٍ
ربّيتُ أحلامي لأعوامٍ طِوالٍ.
ربّما دخلَتْهُ إمرأةٌ لتُنجِبَ فيه حُلْماً عابراً أو تقتلَهْ
ولربّما كنّا نعذّبُهُ كثيراً في مسَاءاتِ الوعولِ.. فنكسرُ الأقداحَ فوقَ سكونهِ أوْ نصفعُ الأبوابَ أوْ حتّى نقوِّضُهُ بعصفِ لهاثِنا في الليلِ.

لكنّي اعتنيتُ بهِ كأنّهُ والدي, لي فيهِ كرسيٌّ كحِضنِكِ آنَ يُدفِئُ عزلَتي, ونوافذٌ مفتوحةٌ لتأمُّلِ الأيَّامِ وهْيَ تمُرُّ في بالِ الخريفْ.

مفتاحُهُ ما زالَ يصدأُ في حقيبتِها, وها إنّي أواصلُ عادتي في الانتظار ومضْغِ ذاكرتي كلوْزٍ, تاركاً خلفي سريراً فارغاً بعدَ التي كانتْ تبعثِرُ عمرَها كرَزاً وسمّاقاً وجمْراً فوقَ شَرشَفِ ذكرياتي.

سوفَ أضحكُ حينَ أذكرُ كيفَ كانَ التمْرُ ينضُجُ في عرُوقي كلّما ارتعشَتْ على شَفَةِ القرنفُلِ زَفْرةٌ أوْ كلّما ارتطمَتْ على كَتِفَيْ دمي ساقانِ مِن دفلى.
سأضحكُ.. كنتُ مأخوذاً بموجي, لا أحطُّ بمرفأٍ إلاّ لأُبحرَ منْ جديدٍ, كانَ لي بحّارَةٌ لا يسأمونَ منَ الأغاني وهْي تخفِقُ في صواري القلبِ,

لكنّي سأبكي حينَ يُرجِعُني صريرُ البابِ يا أمّي إلى القلَمِ الذي اقترفَتْ بهِ أنثايَ حزني فجرَ أقفلَتِ المدينةُ خلفَها برِتاجِ أشعاري نهاري..


إنّما لي منزلٌ منْ غرفتينِ ورَدهةٍ, ربّيتُ فيهِ صِغَارَ أحلامي لأعوامٍ كمَا ربّيتِنِي, وحرستُ صمتَ جُنَينتي بشُجيرتَي وردٍ وليمونٍ وأيْكةِ آكِدِنْيا, رافعاً قمرِي لجارتِنا التي تصطادُ أعشاشَ العصافيرِ الصغيرةِ كلّما اهتزَّتْ غُصونُ الحبِّ في قلبي..

تركتُكِ.. كنتِ واقِفَةً على عتَباتِ دمعَكِ كالفَنَارِ, وكنتِ عبَّأْتِ الحقيبةَ بالحنينِ وقلتِ: لا تنظرْ إليَّ لأنّني سمراءُ يا ابْني, إنّني السمراءُ, سوسنَةٌ العواصِمِ, لوَّحتْني الشمسُ في زمَنٍ نطَرْتُ بهِ كرومَكَ, لوَّحتْني شمسُ أيّامي, ولمْ أنطُرْ أنا كرْمي..

وقفتِ.. وكانَ صدرُكِ يومَها رَطْباً, وكانتْ ذكرياتُكِ ربّما هيَ ذكرياتي نفسُها. ولأنَّ عاداتي قد اختلفَتْ كثيراً, صارَ يكفي أنْ أرى باباً لأدخلَ في البكاءْ
أوْ أنْ أُلامسَ حائطاً حتى يصيرَ أرَقَّ منْ أثوابِ نومِكِ..



منزلي, ربّيْتُ فيهِ صِغارَ أحلامي كمَا ربَّيتِني, ومنعتُها مِنْ أنْ تُغافلَني وتلعبَ مع صغارِ الحيِّ, قلتُ: هناكَ ذئبٌ في المدينةِ, قلتُ: ثمَّةَ ساحراتٌ, قلتُ: قربَ البحرِ كوخُ البحرِ يقْطُنُ فيهِ شيخٌ يأكلُ الأولادَ..

لمْ أكذِبْ كثيراً يومَ قلتُ, فحالما اشتدَّتْ بيَ الأحلامُ وانطلقَتْ على صهَواتِ خيلِ الوهمِ مسرِعةً, سهرتُ أمامَ طاولتي لأنتظِرَ البريدَ.... فجاءني فجراً ثلاثُ رسائلٍ لثلاثةٍ: ذئبٌ, وساحرةٌ, وشيخٌ..

منزلي هذا, أراهُ الآنَ مزدحماً بكلِّ الغائبين: حبيبتي, أهلي, وأصحابي القدامى.. بينما ما زلتُ منذُ الأمْسِ مُرتمِياً على ورَقي وذاكرتي أعانقهُم وحيداً. تحتَ عَتْمِ الحِبرِ, أنصِتُ لانهماري جيّداً, وأرى ارتعاشَ العُشبِ تحتَ السورِ عبرَ بُخارِ نافذتي, أبلِّلُ باشتياقي معطفَ الكلماتِ وهْيَ تمُرُّ مسرعةً على ورقِ الرّصيفِ الآنَ, نافِثةً دخانَ مَشاهِدي حولي, وعابرةً على الشرفاتِ برقاً تلوَ برقٍ تلوَ برقٍ..

قبلَ أنْ أبكي, رأيتُ اللهَ, فانبَجسَتْ حياتي عبرَ شرخٍ في جدارِ قصيدتي, وترقرَقَتْ عينايَ بامرأةٍ وراءَ البابِ. كانَ البابُ مطْلِيّاً ببيتِ العنكبوتِ, وكانَ في أعلاهُ عشُّ حمامةٍ. طارتْ.. فلا دخلَتْ خُطا امرأتي إليَّ, ولا خرجتُ أنا إليها..

زنزنَتْكِ وساوسي, وتدفّقَتْ حولي حياتي, ثمَّ جفَّتْ في الحنينِ وفي السنينِ وفي الكتابِ الجامِعيِّ وفي رغيفٍ يابسٍ في مطبخي, وعلى هواتِفِ لَيلِكُمْ وعلى غيابي –أنتِ أقربُ في الغيابِ إليَّ منْ حبْلِ الوريدِ- وفي الرّسائلِ أوْ عليها, في قرنفُلِ صاحِبَاتي أوْ عليهِ, وفي المَمَرِّ تدفَّقَتْ, وعلى رؤوسِ أصابعي جفَّتْ حياتي مثلَ حِبرٍ..

هكذا زعمَ الرّواةُ, وهكذا قَصَّ الشتاءُ على المدى أقصوصَتي, حتّى تلبَّدَتِ السماءُ بصوتِ أمّي والصلاةِ..

نعِستُ يا أمّي, فأينَ الآنَ كفُّكِ تنفضُ الحُمَّى قليلاً عنْ سريري, والحبيبةَ عنْ جبيني؟. ربّما ما زلتِ جالسةً على نهرِ المدينةِ تعصرينَ قميصَ صبرِكِ. ربّما جفَّتْ يداكِ وأنتِ ترمينَ السنينَ كما الحصى فوقَ المياهِ. نعَمْ, رأيتُكِ عندما الْتَفَّتْ عليَّ دوائرُ الغرباءِ, ما كنتُ استلَلْتُ القلبَ منْ غِمدِ البراري بعدُ. طولَ الليلِ كنتُ ركضتُ طولَ الليلِ لمْ أسقطْ ولمْ أسقطْ ولمْ أسقطْ إلى أنْ غاصَ نابُ الّليثِ في فخذِ الغزالْ..

حسَنٌ إذنْ.. سأقولُ هذا منزلي, وأعيدُ ترتيبَ الأواني فوقَ رَفِّ الأُمنياتِ. وسوفَ أكنسُ عن بلاطِ الروحِ ما قدْ خلَّفَتْهُ عليهِ أحذيةُ النَّدامى, ثُمّ أحلُمُ منْ جديدٍ, ناسياً مائي القديمَ يجِفُّ فوقَ النارِ في إبريقِ وقتي, سانِداً رأسي على كَتِفِ الأريكةِ, عابثاً في فَرْوِ قِطّتِيَ الكسولةِ.

إنّ هذا منزلي, ولطالما جدرانُهُ كانتْ لصوتي دفتراً في الليلِ, أمّا في الصباحِ فمِعطفاً سترَتْ بِهِ امرأتي خطيئَتَها القويَّةَ عندما زارَتْ حيَاتي..

إنَّ هذا منزلي, ولطالما ناقشتُ فيهِ الأنبياءَ بمَا أضفْتُ على رسائِلِهِمْ, وأقنعتُ الشياطينَ الكبارَ هنا بلا جدوى وساوسِهِمْ. وكانَ الأنبياءُ على يميني يجلِسونْ
أمّا الشياطينُ الكبارُ على الشِّمالِ فواقفونَ. وكنتُ أشعِلُ بالجِدالِ سجَائِري, حتّى تنَحْنَحَتِ الحقيقةُ ذاتَ قِسطاسٍ بجلسَتِها لتحكُمَ.. أطفَأَتْ أعقابَ قولي في فنَاجينِ السؤالِ, وأردفَتْ: أينَ الحقيقةُ؟. قلتُ: فيكِ..
فأطرَقَتْ حُزناً, وأغْضَتْ عنْ جوابي النارَ, ثُمَّ اغرَوْرقَتْ بالمُستحيلْ..

ولأنَّ هذا منزلي, فلقدْ مدَدتُ بشُرفتي –مُذْ جِئتُ- حبلاً معدنيّاً, ثُمَّ علَّقْتُ المدينةَ مثلما علقْتُ قمصاني وأزواجَ انكساراتي وحَمَّالاتِ أوجاعِ الحبيبةِ. وانتقيْتُ لكيْ أُطِلَّ عليكِ نافذةً وكرسيّاً وعصفوراً, فشارَفَتِ البلادُ على المطرْ,
ورأيتُ ظُفراً يخْمشُ امرأتي, فأجهشَتِ الشوارِعُ بالشتاءْ,
ورأيتُ سيَّافاً على بابِ الخليفةِ يُشهِرُ الموتى عليَّ, فحشرجَتْ بالرّعدِ حنجرتي وأحرقَتِ البواشِقَ والشجرْ...

الآنَ يا أمّي, وما بينَ المدينةِ والمدينةِ, ينصِبُ الغرباءُ جسرَ الريحِ كيما يرجعونْ,
وأنا أعاونُهُم, أُفكِّكُ منزلي هذا, لنرفعَ مِنْ حجارَتِهِ لأجلِ الجِسرِ أعمدَةً, ونجعلَ منْ عوَارضِهِ أفَارِيزاً, ونصنعَ منْ حديدِ مقابضِ الأبوابِ حدْوَاتٍ لأجلِ الخيلِ.. لمْ نكبَرْ كثيراً, بعدَ زوبعتَيْنِ سوفَ تُقِلُّنَا العرباتُ نحوَ الأمّهاتِ, وسوفَ نرجِعُ كلُّنَا, غرباءَ مُبْتَلِّينَ بالمنفى.. وقدْ خشُنتْ جلودُهمُ قليلاً ربّما, أوْ ربّما اتَّسعَتْ منَاكبُهُمْ قليلاً, ربّما عَرِيَتْ رؤوسُهُمُ قليلاً.. إنّما ازدادَتْ قساوَتُهُمْ كثيراً بعدَما جفَّتْ على طرقَاتِهِمْ آبارُ أعينِهِمْ, وجَفُّوا بعدما امتصَّتْ لحومَ صدورِهِمْ أُمُّ الذِّئابْ.



الآنَ يا أمّي أفكِّكُ منزلي حجَراً
حجَرْ
حجَراً
حجَرْ..

للأرضِ عادتُها, ولي في الأرضِ عاداتُ الغجَرْ.
سترَيْنَنِي يوماً أمامَ البابِ مُنتصِباً كنَايٍ, فاعرفيني إنْ لمَحْتِ أصابعي وتَراً وتَرْ
تهتَزُّ في قيثارةٍ صدئَتْ, وفُضِّي عن وعولي شبْكةَ الصيّادِ, وانتَزِعي الطحالبَ عنْ ضفافِ العُمرِ, هُزّيني كجذعِ النخْلِ تسَّاقَطْ على قدمَيكِ أغنيتي وأنطقُ مرّةً أخرى بمهْدِ الحُلمِ, ربّينِي كمَا ربّيْتُ أحلامي, ولا تضَعي الوِشاحَ, ولا تطوفي بي بأسواقِ المدينةِ منْ جديدٍ, بلْ ضعيني وردةً بإناءِ صدرِكِ, والْمسِيني دائماً بيدَينِ سمْراوَينِ, يا سمراءُ, يا مَنْ طالَما غرَّتْكِ غيْرَةُ والدي, وخناجِرُ المَلِكاتِ وهيَ تُضيئُ في غُرفِ المُلوكْ..


هوَ منزلٌ منْ غُرفتَينِ ورَدهةٍ,
بابٍ, وخمسِ نوافذٍ وجُنَينَةٍ
فكَّكْتُهُ, وجلستُ مُستنِداً لزنْكِ خزانتي, أصغي إلى مطرٍ قديمٍ.
ليْتَ هذا منزلي,
إذْ ليْسَ هذا منزلي.
فكَّكْتُهُ.. فكَّكْتُهُ..
وجلسْتُ في المطرِ القديمِ أُضيئُ أوراقي ببَرْقِ مدائحي..
سمراءُ,
يا أمَّ المنازلِ كلِّها,
كمْ منزلٍ في الأرضِ قدْ عَقَّ الفتى,
ومديحُهُ أبداً
/أبداً/ لأوَّلِ منزِلِ..



21 / 3 / 2000









* * * * *






تمام التلاوي



عنوان الكتاب: منزل مزدحم بالغائبين



جميع الحقوق محفوظة للكاتب